طائر الإبداع المصرى
مرحبا بك فى موقع ومنتديات مصر اليوم
يسعدنا جدا أن تكون عضوا مشاركا معنا
طائر الإبداع المصرى
مرحبا بك فى موقع ومنتديات مصر اليوم
يسعدنا جدا أن تكون عضوا مشاركا معنا
طائر الإبداع المصرى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدى مصرى لكل المبدعين
 
البوابةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 خديجة بنت خويلد

اذهب الى الأسفل 
5 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
shiko
عضو ذهبى
عضو ذهبى



عدد المساهمات : 213
تاريخ التسجيل : 27/05/2009

خديجة بنت خويلد Empty
مُساهمةموضوع: خديجة بنت خويلد   خديجة بنت خويلد I_icon_minitimeالأحد يوليو 12, 2009 12:31 pm

خديجة بنت خويلد
تأليف:سنية قراعة
جزاها الله كل خير

كان لها الحسب، وكان لها الأصل العريض، فهي بنت الصيّد البهاليل من سادات قريش، وفوق الحسب والأصل العريق، والأرومة العتيدة، كان لها الجاه العالي، ثم كان لأبويها المال الجم والثراء الوفير، وللمال والثراء فعلهما وأثرهما، فلاعجب أن تقدم لها السادة الغطاريف يخطبونها لأنفسهم، ويدعون بما كان لها من فضل وأمجاد، أمجاد كانوا يتميزون بها ويفاخرون.

وهكذا تزوجت خديجة بنت خويلد، سيدا من أكرم أبناء عمومتها هو «عتيق بن عائذ المخزومي»، وأنزلها أعز منزل، وأكرمها أيما إكرام، وعاش معها حياة، كانت هي السعادة المدعمة المستقرة، حتى شاءت إرادة الله أن يفرق الموت بين الزوجين الشابين، فمات عتيق وترملت خديجة، وهي لما تزل بعد في نضارة الصبا والشباب.

وعادت الأرمل الشابة إلي بيت أبيها خويلد، وقد ورثت مال زوجها عتيق، فزاد لديها المال، وتعاظم الثراء، فشغلت نفسها بالتجارة شأنها في ذلك شأن مجتمع قريش وشأن ساداته، حتى حدث أن تقدم «أبو هالة هند بن زرارة التميمي»، يخطبها لنفسه، وكان سيدا في قومه، له جاهه ومكانته، وماله، فارتضته خديجة زوجا ودخلت بيته، وعاشت في ظله ما شاء لها الله أن تعيش.

ثم، لحق «أبو هالة» بربه، وترملت خديجة للمرة الثانية، وللمرة الثانية، ورثت فوق مالها، مال الزوج، فعظم الثراء، وتكاثر المال، وتبعاً لذلك اتسعت دائرة التجارة، وعظم نطاقها.

وورثت خديجة بعد هذا، وفوق ما ورثت قبل، مال أبويها ومركزهما التجاري، ومكانتهما المدعمة، وما كان لهما من أعمال عدة متشعبة، وأصبح عليها وحدها أن تديرها، وتتولاها، وترعى شئونها، فخرجت إلى نطاق العمل، وباشرت الصعب من أمور الاتجار فكثر عبيدها، وتكاثر مالها، وتضاعف عدد من كانوا يعملون لحسابها وتحت إمرتها، وأصبحت لها صلات بأهل المال وأصحاب التجارة، وخرجت باسمها القوافل عبر الصحراء في رحلتي الشتاء والصيف.

وبحكم هذا المركز المالي الكبير، والإشراف الكامل على أعمال التجارة والقوافل وعمالها، وترتيب مواقف خروجها وعودتها في مواعيد منتظمة - أصبحت خديحة وثيقة الاتصال بمجتمع قريش، تعلم الكثير من أنباء أهله.

وسمعت خديجة في جملة ما سمعت باسم محمد، فتى من بني هاشم، عمل في صغره وعرف في مجتمع مكة بأسرها باسم الأمين.

شاب يخطو نحو الرابعة والعشرين، في ربيع عمره، مكتمل الشباب ولكنه راجح العقل، جميل الطباع، رزين، هادئ، له فلسفة الحكماء وطول باعهم، وحكمة الشيوخ وبعد نظرهم، فيه روية أهل الحجا، وله سعة أفق العلماء الواثقين ممن يزنون الأمور ويضعون كل شيء في موضعه الحق الجدير به.

***

وعجبت خديجة بنت خويلد لما سمعت من أمر محمد بن عبد الله، ووجدت نفسها تطلب المزيد من أنبائه، لتعرف عنه، أكثر مما عرفت.

عرفت أن أباه عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم، مات وأمه آمنة بنت وهب حامل به، وأن جده عبدالمطلب كفله، وأن حليمة السعدية أرضعته وتربى معها في الصحراء وسط ربوع أهلها، فعرف البادية، ونشق هواءها، وعاشر أهلها.

وراحت خديجة تطلب المزيد من أنباء محمد، فعرفت عنه ما أثار دهشتها، وعجبها، بل تقديرها وإعجابها، عرفت أن محمدا لم يتصف بالأمانة والحجا فحسب، بل بالعزوف عن مجتمع قريش بأسره، والبعد عن مجون أهله، وإسرافهم في طلب الملذات، وراع خديجة أن يوجد في مكة قرشي شاب، بعيد بروحه وفكره عن مجتمعه وطباع قومه، ووجدت فيه وعن طريق السمع، أميناً يجب أن يؤتمن، وحكيماً، من التعقل أن تستغل حكمته، ومن هنا، قررت أن يعمل معها، وأن تكل إليه أمر قافلة من قوافلها، يخرج بها إلى الشام.

ولما كان صاحب المال دائماً يتميز بالحرص، والدقة في اختيار أمنائه، فقد حرصت خديجة على أن تختبر محمداً، اختباراً عملياً، ظاهراً، فوكلت إليه أمر التجارة، ثم أرادت فوق هذا أن تختبره روحياً وخلقياً، إذا ما هو بعد عن مجتمعه الذي عرف فيه بالرزانة والتعقل، وخالط مجتمعا لا يعرفه فيه أحد، ولقى فيه حريته الكاملة، البعيدة عن الرقابة والعيون، فأرسلت معه عبدها «ميسرة» ليرقبه عن كثب، حتى إذا ما عاد، عاد إليها بصورة كاملة عن محمد، في حله وترحاله، في سفره وإقامته، في ممارسته للتجارة، ومعاملته للناس، في بيعه وشرائه، في تعرّفه على كل وسط جديد يدخله، ومع كل أناس يخالطهم.

وخرجت القافلة، وعلى رأسها محمد بن عبدالله، وخديجة تتعجل الأيام لعودتها، ومعها أنباء الشاب الذي تمنت أن تصدق فيه أقوال الناس، وألا تخيب فيه فراستها وصدق حدسها.

وعادت القافلة والربح الوفير، والتجارة الرابحة، وأعز وأروع الأنباء التي كانت تتصوّرها خديجة الطيبة التي راحت تصغي إلى «ميسرة» عبدها الطيب وهو يحدثها حديث المأخوذ عمّا رآه من الأمين محمد طوال أمد الرحلة من مكة إلى بلاد الشام، ومن هناك إلى مكة.

خوارق وأعاجيب سمعتها خديجة عن محمد، ومديح يتلوه مديح، فالشاب العزوف عن مجتمع قريش، ظل على حاله، العزوف المتباعد عن مجالي الشام ورائع سوامره التي يقبل عليها التجار في شغف ويرتادها أصحاب القوافل في لهفة وإعجاب.

أبداً ما غيّرت الرحلة من محمد، ولا بدلته ظروف السفر والترحال، بل ظل كما هو، هادئاً، رزيناً حكيماً، صامتاً لا يتكلم إلا حين يفرض عليه الموقف الكلام، فإذا تكلم، كانت الكلمة الواحدة منه تزن آلاف الكلمات، وتجذب السامعين إليه، ففي صوته نبرة غريبة، وجرس أخّاذ يجبر سامعه على الإنصات له.

واستعرضت خديجة الأمر، لقد عادت التجارة بأضعاف أضعاف ما كانت ترجوه لها من ربح، وهذا ما يشجع على التمسك بمن أشرف عليها هذه المرة، لأن الربح سيتضاعف بعد ذلك أضعافاً فوق أضعاف، ومحمد هذا، يجب ألا تفرط فيه خديجة أبداً، بل لترى بحاسة صاحبة الأعمال الواسعة، أن الحكمة توجب ضرورة استبقائه، وأن تكل إليه أعمالاً بعد أعمال.

وكما كان محمد الأمين حديث قريش من قبل وموضع إعجاب وإكبار أهلها على مختلف أعمارهم ومراكزهم، أصبح اليوم موضع اهتمام خديجة، حتى أنها هي الأخرى تتحدث وتطريه، وتمتدحه أمام أقرب صاحباتها إليه، وأن إحداهن وهي صاحبتها «نفيسة بنت منية» لتستمع إليها في دهشة، وتحس بأن خديجة تتحدث حديث القلب، وأن في النفس إلى محمد، ما هو أكثر من الإطراء والمديح.

وشاءت القدرة أن تلعب نفيسة دورها في التقريب بين خديجة ومحمد الذي ارتاحت خديجة إليه، وأسرعت الصديقة الأمينة إلى محمد تسأله سر انصرافه عن الزواج، وقد بلغ الخامسة والعشرين، فكان صريحاً معها إلى أبعد حدود الصراحة، إذ لم يكن بيده ما يتزوج به، فإذا بها تعرض عليه الحسب والمال والجاه، فعرف أنها تشير إلى خديجة التي أنس إليها من قبل، وسرعان ما قبل عرض نفيسة في لون من ألوان التحفظ، لأنه كان يعرف أن خديحة قد طلبها سادات قريش وكبار أثريائها فردتهم، فكيف تقبله هو وهو المعدم الفقير.

وهونت نفيسة الأمر لمحمد، وعادت إلى خديجة، ثم.

ثم تم الزواج المبارك المبرور، وحضره أعمام محمد وعم خديجة عمر ابن أسد.


منقول عن كتاب العربى
وله بقية


عدل سابقا من قبل shiko في الأحد يوليو 12, 2009 12:37 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
shiko
عضو ذهبى
عضو ذهبى



عدد المساهمات : 213
تاريخ التسجيل : 27/05/2009

خديجة بنت خويلد Empty
مُساهمةموضوع: رد: خديجة بنت خويلد   خديجة بنت خويلد I_icon_minitimeالأحد يوليو 12, 2009 12:31 pm

وأصدق محمد خديجة عشرين بكراً، وبدأ حياته المستقرة معها، وانتقل إلى بيتها الهادئ، الذي أغناه الله بوجوده فيه عن الناس، ورفرفت السعادة على الزوجين الهانئين وبدأت تؤتى ثمارها النضرة. ورزق محمد من خديجة بأولاده القاسم والطاهر والطيب، وببناته زينب ورقية وأم كلثوم ثم فاطمة الزهراء.

وشاءت إرادة الله، أن يتخير إلى جواره أولاد محمد الذكور، فلحقوا به سبحانه وتعالى وهم في طفولتهم المبكرة، فحز هذا في نفس أبيهم الطيب، الذي اتجه بكل رعايته وعطفه بعد ذلك إلى زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة الصغيرة.

ومرت السنون، مرت في يسر وهدوء إلى أن زوج محمد ابنته زينب بأبي العاص بن الربيع ابن خالتها، وخطب عمّه أبو لهب رقية وأم كلثوم لولديه عتبة وعتيبة.

خمسة عشر عامًا مرت بعد الزواج السعيد، وشارف محمد الأربعين من عمره، وقد زادته الأيام حكمة وأصالة، وكفلت له ظروفه المادية الميسرة عيشاً مستقراً، وتفكيراً منظماً، ما لبث أن تخطى محمد به مجتمعه، ثم استقر به إلى ما هو فوق تفكير أهل مكة جميعاً.

ما أصغر هذه الحياة، وما أهونها وأحقر شأنها، بل وما أتفه عقول الناس هذه التي بعدت عن الحق، وتعامت عن الجوهر، واتبعت الزيف، وأحبت الضلال!!

ثم، أي حياة هذه التي يحياها أولئك الناس، وهل يعبثون في حياتهم وبمجتعهم حتى يصلوا به إلى هذا الدرك السحيق، فعاشوا حياة بلا هدف وبلا غاية، حياة لا تعرف غير العبث واستحلال الحرمات.

مجتمع سادر في الغي، غارق في الإثم، مقبل على لذات الحس، دينه التدنّي، وديدنه الشهوات!

والحقيقة!

حقيقة هذا الوجود، حقيقة الإنسان ورسالته وهدفه من الحياة، أين ذهبت؟

والحق، الحق وحكمته وأصله وفلسفته ومراميه السامية! أين ضاعت معالمه، وكيف بددته عقول هؤلاء الناس!

كل شيء تافه، وكل ما هنالك حقير لا يساوي مثقال ذرة من وجوده.

لهو وعبث وخروج سافر عن لب الحقيقة!!

حتى العبادة عبارة عن تمرّد، والتعبّد ضلال، وطقوس الضراعة غي وبهتان مبين.

أي دين هذا الذي انتظم كل هؤلاء العابثين؟ وكيف أباح لهم المحرمات، وناداهم إلى الإثم، وحرّضهم على الرذيلة؟ وأى معبود هذا الذي يقبل لعباده هذا التردي ويسمح في مواسم الحجيج إلى ساحته بأمثال هذه الموبقات ؟!

خمر، ورقص، وتجرّد، وانحلال، أهذه هي شعائر ذلك الدين، وتلك كانت طقوسه!!

لا.. لا.. وإلى الأبد لا.. فليس هذا كله من الحقيقة الطاهرة الناصعة في شيء أبدا.

إذن، فأين الحقيقة، وأين وجه الحق؟!

تلكم كانت الفكرة، وذلك كان المدار الرحب الذي دارت حوله أفكار محمد.

لقد كانت فكرة الحق هي شغل محمد الشاغل، وأن وجدانه الملهم النقي الطاهر ليرشده إليها، ولكنه رغم هذا كان في حيرة من أمر، ومن أمور عدة كان يراها حوله، ويرى أنها فرضت قسراً على مجتمعه الضال، وأهله الضالين.

من أجل حيرة الوجدان، وقلقه وعدم استقراره، أنكر محمد مجتمعه، وباعدة وأمعن في الهرب منه، لا خوفاً مما كان يحدث، بل ترفعاً عن التدني، وإشفاقاً لتهاوي البشر في الإثم وإغراقهم في الباطل.

وفي سبيل البحث عن الحقيقة الجلية التي تؤمن بها الروح الصافية، ويدين بها العقل المجلو، ويقبل عليها القلب الشفاف، وترضاها النفس المستضيئة بأنوار الحق - راح محمد يبحث عن الحقيقة في بعده عن الناس، بعداً، تمرّد فيه على عبادتهم ووسائل تعبّدهم، فأبى أن يتصوّر أن للأحجار المنحوتة قيمة، أو أن للصنم العاجز قدرة، أو أن له - حتى كما كان مجتمعه يدعى - شفاعة وقرباً من الله.

أبداً ما كان لمحمد - الذي تولاه الله برعايته، وأعده ليهدي به الضالين جميعاً إلى طريق الحق - أن يساير قومه في طريق، أو يوافقهم في رأي، فكان غريباً عنهم وإن عاش بينهم، يرقبهم وهو يأسف لهم ويشفق عليهم ويرثى لحالهم.

كانت نفس محمد عامرة بالآيات البينات، مضطربة بالمشاعر النورانية ولكن، لم يكن بوسعه أن يفصح عمّا كان يشعر، أو يعبّر عما كان يحس، فلم يكن قد حان الوقت، وجاء الأمر اللدني الأعظم.

وأمعن محمد في البعد عن مجتمعه، وهاهو ذا يميل إلى التحنث، والتحنف، ويهوى التفكر في ملكوت السموات والأرض.

كان محمد يمر بالفترة التي مر بها جده الأعظم إبراهيم عليه السلام، وكان وجدانه يناجي، أو كأنى به، كان يهتف بما هتف به إبراهيم، وقد ضاق بالشمس، وكره أن يتبع النجم، أو يؤمن بالقمر. وقال: «لئن لم يهدني ربي..».

ووجد محمد راحته في «غار حراء»، فكان يهرع إليه، ويلجأ إلى هدوئه الذي طابت إليه نفسه، وكان يبقى فيه متحنثاً، متحنّفا. متفكرًا أياماً بعدها أيام، وهنا، وأمام إقدام الزوج على مداومة الخروج إلى هذه الخلوة الموحشة، وتكرار لجوئه إليها وانصرافه عن بيته ومن فيه، وعن الدنيا وشواغلها، إلى غيبة كان يطول أمدها في غار حراء - هنا، وأمام هذه الظاهرة الجديدة من ظواهر عزوف محمد عن مجتمعه الصغير وأهله، وهم أمس الناس به، وأحبهم إلى قلبه، هنا، تبرز عظمة خديجة وجلال تفهّمها لمشاعر الزوج وعظيم تفكيره.

أبداً ما أقحمت الزوج البارة نفسها على الأمين الذي عرفته، وخبرته عن كثب، واستشفت ما وراء روحه العظيم ووجدانه العالي.

أبداً ما سألته سر تحنّثه ولا هي اعترضت لإمعانه في خلوته البعيدة في «حراء» بل راحت تشجعه وتعينه على أموره الروحية، وكأنما أحست أن وراء هذا التحنّث ما وراءه، واستطاعت أن تتخيل ما سوف تسفر عنه هذه الوحدة التي ما كان لمجتمع قريش بها من عهد، إلا لدى فئة تكاد من قلتها أن يكون وجودها في حكم النادر، ممن كانوا يتبعون الحنيفية ويكفرون بمعتقدات قريش.

واعتاد محمد في أوقات معينة أن يخرج إلى الغار، واعتادت خديجة أن تهيئ له شتى مطالبه، وأن ترعاه، وتعينه، وتشحذ نفسه بما كانت توليه من عطف ورعاية وتشجيع، فكان يبقى هناك ما شاء له الله أن يبقى، فإذا ما طالت غيبته تلمسته الزوج الحانية واطمأنت عليه، ثم لا تلبث أن تتركه إلى نجواه وتفكيره الصامت الطويل. وتأمله وتدبره في شئون الملكوت وتسامى روحه الشفاف إلى ما وراء الحقيقة من حقائق الكون العظيم.

وحل رمضان - ويوافق أواخر شهور العام التاسع بعد الستمائة من ميلاد المسيح عليه السلام - وأن رمضان للموعد المختار الذي اعتاد محمد أن يلجأ فيه إلى صمت الغار، وهدوء «حراء» يتحنث ويتحنف، ويفكر في الحقيقة، وما وراء الحقيقة من حقائق تغافلت عنها بصائر الناس.

ومضى الزمن في مسيره العادي، وأخذت مظاهر الحياة سمتها المألوفة، وأهل مكة هم هم، ما تغيروا، ولا تبدلوا، ولا أحسوا بمرور الزمن، وتهيؤه لحادث عظيم.

وعلى الحال نفسه من التردّي، عاش جيران أهل مكة، وجيران جيرانهم من أناس، وعشائر وقبائل، بل وشعوب وأمم وخلائق لا يعلم عديدها غير الله، حياة هي الضياع بأجلى معانيه، هي الهيمان في الضلالات، هي الإغراق في الباطل، هي الإسراف في التردي وفي الانحلال.

وقف الناس حيث تخيروا لأنفسهم أن يكونوا، وقفوا والفلك المحرك سائر، وكل ما في الكون يسعى إلى سنة التغيير.

وأخذت أيام شهر رمضان تمر كغيرها من أيام لم تعتد قريش أن تقيم لها أي حساب، وبقي محمد المتيقظ الحي، الواعي البصيرة، حيث اعتاد أن يكون في مكانه من الغار المبارك، يتفكر في خلق السموات والأرض، وتتابع الليل والنهار، ثم يهفو بوجدانه إلى الحقيقة العظمى، وما وراء تلك الحقيقة من معارف وأنوار.

كان محمد وحده يتفكّر ويرجو، ويتعالى بالحس إلى حيث هداه الحق، وصفا من أجله الوجدان، واستنارت البصيرة، واتسع رحاب القلب الذي وسع الدنيا بأكملها الكامنة فيه، المتوثبة إلى الانطلاق لتنير الظلمات وتبدد الشكوك.

وراحت أيام رمضان تمضي، ولياليه الغر الميامين تتابع حتى كانت الليلة المباركة، ليلة القدر الرفيع، الليلة العظمى الجليلة المقدار، التي شرّف بها الزمن وتعاظم، الليلة التي أرادها الحق فاصلاً بين عهدين، بين ظلمات كان من اللازم أن تدبر، ومواكب نور أصبح من الضروري أن تتقدم، إذ كانت سنن الحياة تفرض أن يستضيء بها الكون، وأن تنتشر ومضاتها وأن تستقر وأن تدوم.

وخيّل إلى محمد وهو غارق في تحنثه، مسلم نفسه إلى خلوة الذهن والروح، وتيقظ الوجدان الحي، خيّل إليه أنه يسمع اسمه.

صوت غريب كان يناديه ولاشك، صوت غير مألوف أبدا، له أصداء لم يتعوّدها، ونبرة لم يكن له بها من عهد قبل الآن.

وأحس الأمين برعدة، واستشعر رهبة ما أحسها أبداً قبل ليلته تلك، وراح يصغي في هدوء، وأصداء الصوت تتردد في جوانب الغار برنين غريب.

وتلفت محمد حواليه في فزع، ونظر ناحية مصدر الصوت في رهبة، وإذا به يرى عجباً.

رأى محمد أية من آيات الله الخلقية الرائعة الحس، الباهرة الجمال، الشديدة الوضاءة، النورانية الصورة، وقد راحت بجليل لآلئها تملأ الفضاء حواليه، حتى لقد عجب لأمرها وهي تملأ الفضاء، وتبدو في كل شيء وقعت عليه عينا الأمين الصادق محمد بن عبدالله.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
shiko
عضو ذهبى
عضو ذهبى



عدد المساهمات : 213
تاريخ التسجيل : 27/05/2009

خديجة بنت خويلد Empty
مُساهمةموضوع: رد: خديجة بنت خويلد   خديجة بنت خويلد I_icon_minitimeالأحد يوليو 12, 2009 12:33 pm

وعاد الصوت القدسي الرنين، يصل إلى وجدان محمد الأمين فيهزه في رقة ولين وحدب، ونبراته الحنون، تطق مسمعي الأمين، وصاحب الصوت يقول له:

«اقرأ..».

وتولت الصادق الأمين الدهشة، وأخذ منه العجب، مأخذه، فماذا كان بوسعه أن يقرأ في تلك اللحظات الخاشعة، وأي صحف كان يريد منه الملك الكريم أن يقرأها.

وحار الأمين.

حار محمد بين الأمر الكريم، وإغراقة الروح في محيط الدهشة، وتبلبل الوجدان، في بحور العجب والذهول القدسي، وإذا به يجيب:

ما أنا بقارئ...».

وعاد الصوت القدسي الرنين يصل إلى مسامع محمد، قارئاً ما أمر محمد بقراءته، للناس أجمعين..

اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان مالم يعلم.

لقد اهتدى الباحث الأمين إلى الحقيقة التي طال بحثه عنها، وأهّلت عليه أضواء المعرفة، فاستنار بها القلب، وأشرق بنورانيتها الوجدان، فعرف محمد، ثم قرأ، قرأ باسم ربه الذي خلق.

ماذا قرأ الأمين، قرأ قرآناً عربيًا غير ذي عوج «فصلت آياته قرآناً عربيًا لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً..».

قرأ محمد، قرأ باسم ربه الذي خلق، ربه الذي خلق، يالجلال النور، ينفذ إلى القلب فيعرف، ربه الذي خلق، تلكم هي الحقيقة وقد تجلت ظاهرة واضحة.

وهتف الوجدان، فقد عرف الحق، عرفه محمد الأمين الذي برأه الله من كل نقيصة وحماه من كل سوء، وحصّن بالفضائل روحه، وصان حياته فعز على الشيطان الرجيم، ولم يجسر أن يحوم حوله.

عرف الأمين، الطاهر الكامل، الراجح اليقين أن قريشاً.. أن القبائل جمعاء كانت على ضلال حين سعت إلى باحة الصنم وساحته، وسجدت أمام جلاله المزعوم، وسألت الحجر الأصم وهي صانعته، وهي التي أوجدته.

عرف محمد أن هؤلاء الناس جميعاً قد عموا عن الحق، وأن الحق الذي صانه وحماه، وبرأه من الوهم، والاتجاه إلى الصنم، فقد اصطفاه من بين الناس جميعاً فهداه إليه، ليقرأ ويعرف، ثم يقرأ بعد ذلك على الناس ما عرف، ليهتدوا بالهدى، ويتبعوا النور الذي أنزل على الأمين الصادق محمد بن عبدالله.

واهتدى محمد إلى ربه الذي خلق، أجل، الذي خلق وصنع وصوّر، وأبدع ثم هدى، وأفاض على العالمين كل خير وكل بركات، وكل نعم أجلّها وأعظمها نعمة الخلق، والمقدرة على جليل الصنع والإبداع.

خلق، وهو القادر، خلق الإنسان من علق، نعم، من علق خلق الإنسان ذلك الكائن العظيم الذي انطوى فيه العالم الأكبر، خلقه الله من علق، خلق الله الإنسان، هذا الطاغية المتحكم سيد الأرض وما فيها.

اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علّم بالقلم * علّم الإنسان مالم يعلم.

وقرأ محمد، ثم عاد يقرأ، قرأ باسم ربه الأكرم الذي خلق أولاً ثم، وبعد أن تكرّم وخلق، تفضّل وأنعم بالعلم ونورانية العلم، فعلم الإنسان مالم يعلم.

يالها كانت من ليلة، ويالجلالها من لحظات مرت بمحمد وهو في الغار، لا يدري كم من الزمن مرّ عليه، هل لبث حيث كان دهراً، أم أنها كانت لحظات جلاء خاطفة مرّت به، أم هو مرّ بها، وأسرع إلى بيته يرتعد ويرتجف، ويسترجع في خياله ما كان، وهو يخشى أن تكون به جنة أو أن تصوّر أن الوحدة قد عبثت وأثرت فيه.

رجع إلى بيته، في وقت لم يكن من عادته أن يرجع فيه أبدا، فطالما قضى أيام رمضان كلها متحنثاً متعبداً في الغار، بل إنه كثيراً ما كان يحدث أن مرت به في خلوته، تلك شهور كانت تتعدى الأربعة، وقد تصل إلى ستة شهور، فترى لماذا عاد الآن والوقت لا يسمح بمثل هذه العودة، وما كان يضيره من شيء أو هو صبر حتى مطلع النهار!!

وأي حادث تعرض له!!

تلكم كانت الأسئلة التي تزاحمت على خيال خديجة الحانية، العطوف ساعة أهل عليها زوجها عائداً من الغار، بادي الاضطراب، ظاهر المخاوف، يرتجف ويرتعد، فأقبلت عليه في حنان سابغ وعطف عظيم تسأله ما به.

وتكلم الأمين، ولم يقل غير كلمة، دثّروني.. دثّروني.. وهو يرتعد.

وأسرعت خديجة تهيئ لزوجها ما طلب، ثم راحت تحوطه بالبر، وتدثره بالحنان، والرحمة، فأضفت عليه من روحها الكبير ما جعله يستشعر بعض الهدوء النسبي، ثم تكلم.

ولقد كان من اللازم أن يتكلم، إلى من يعرف كيف ينصت إليه، ويتفهم جيداً ما كان يقول، وهل كان هناك أجدر وأليق وأكثر حناناً وبراً وعطفاً وحدباً من خديجة الكبيرة القلب لتنصت وتسمع وتتدبر ثم تصغى بعقل سليم إلى ما كان يقول.

وتكلم الأمين، ووجف قلب خديجة، بل غلبته الفرحة ودهمته السعادة، فقد صدق حدسها في محمد، وأن ما ظنته فيه ليحققه لها حديثه الصادق وهو يروي على مسمعها كل ما حدث في الغار.


له بقية
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
shiko
عضو ذهبى
عضو ذهبى



عدد المساهمات : 213
تاريخ التسجيل : 27/05/2009

خديجة بنت خويلد Empty
مُساهمةموضوع: رد: خديجة بنت خويلد   خديجة بنت خويلد I_icon_minitimeالأحد يوليو 12, 2009 12:33 pm

أبداً، ما كتم الأمين الصادق عن زوجته شيئاً مما رأى، ولا حرفاً مما سمع، وهي تسمع في إصغاء شديد، وبريق الفرح يشع من أعماق عينيها، وعلى وجهها الرقيق الملامح، الناطق بالعطف والحدب، تجلّت أضواء الفرحة الكبرى، وكأنى بالأمين لم يأتها بجديد ما كانت تتوقعه وهي التي طالما تصوّرت هذا، بل طالما أحسّت بوجدانها الحي، أن وراء عزوف زوجها عن مجامع قريش وأربابها، بل عن أهلها ثم تحنثه وتحنفه، وطول وحدته في الغار البعيد - طالما أحسّت أن وراء هذا كله ما وراءه، وأيقن فؤادها، أن محمداً الأمين الطاهر، الكامل، الراجح العقل لا يبعد أبداً أن يكون هادي هذه الأمة، والنبي المنتظر، الذي كانت البشرية ترجو ظهوره والذي تهامس بمقدمه وأشار إلى بعثه، في هذه البقاع بالذات أهل الكتاب.

ولقد ارتاح محمد إلى إنصات زوجته، وطاب نفساً بإقبالها عليه، وقرأ في ملامحها، أنها آمنت بما قال، وصدقت كل ما سمعت، وإذا به يقول في هدوء مَن بدأ يغمره الهدوء «لقد خشيت على نفسي».

وتسامى الحنان، وتعالى، وتعاظم أمره، وجلّ وتفرّد فوصل إلى مراتب القداسة، وبلغ درجات الملائكية، وإذا بالشريكة الحانية، تقول:

- يا ابن عم، والله لن يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

هذه الفضائل جمعاء، لا يمكن أن تتجمع إلا في كامل، مطهر، مختار، اصطفاه الله ربه لأمر عظيم، ورسالة عظمى، ليهدي الناس إلى الحق فيتبعوه وهم على ثقة من صدقه، فقد كان صورة حيّة للكمال البشري، والسمو الإنساني، المبرأ من كل عيب، البعيد عن كل نقيصة.

وارتاح الأمين، وهدأ، وطابت نفسه وعاوده الهدوء، وكأنما غلبته راحة طاغية، جمل مع مسراها إلى نفسه ينصت إلى قول خديجة له بأن الله لن يخزيه أبداً، فهو الفضيلة مجسّدة والكمال الخلقي ماثل للعيون في صورة إنسان، طهّره ربه، وعلّمه، واصطفاه، وتخيّره، بعد أن أدبه فأحسن تأديبه.

وراح محمد يسترجع ما كان، ويتذكر دقائق ما حدث ثم...

ثم ما لبث أن استغرق في نوم عميق، بعد أن دثّرته خديجة، وعنيت به كدأبها دائما معه.

وأخذ الوقت يمر، اللحظات كالأعوام، والدقائق كالدهور، وخديجة متيقظة الحنان، شديدة الانتباه، مرهفة الحساسية، يشملها صمت البيت الهادئ وتحتويها سكينته، ثم لا تلبث أن تردها إلى الواقع أنفاس الزوج المستغرق في نومه، فتذكر مرة في إثر مرة ما سمعت منه. ثم تسترجع مرات ومرات ما قال، ثم تسلم نفسها لا إلى الخيال الجامح، بل إلى الواقع والحقيقة، فهي لا تحب الخيال، ولا ترتاح لشيء ما ترتاح إلى الحق.

وبدأت خديجة تتدبر في إمعان وعمق تفكير ما سمعت.

أهي رؤيا؟!!!

أجل، وإنها لرؤيا حق وصدق، بل.. وأمر، ثم تكليف، بعد هدى وهداية إلى حق طالما فكر محمد في عوالمه وحار.

هذا الذي حدث لا يمكن أن يكون إلا حقا، حقاًِ مؤكداً لا مرية فيه أبداً.

اقرأ.. ماذا يقرأ..؟! ذلك ما فكرت فيه خديجة.

اقرأ، ما سوف تسمع، اقرأه على الناس وهذا هو التكليف الإجمالي، والأمر بالبلاغ المبين.

اقرأ، ما سوف تسمع من آيات الله المحكمات، اقرأها على الناس ليهتدوا بها.

اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علّم بالقلم * علّم الإنسان مالم يعلم.

هذا كلام لم يسمع به أحد من قبل أبداً، كلام يجب تدبّره والإمعان فيه.

ولكن، هل تستطيع خديجة وحدها أن تفكر في هذا الذي سمعت؟!

لقد صارحها زوجها بما رأى، وما سمع، وجعلها شريكته في الرأي، وقد أحب أن يستمع إلى رأيها في هذا الأمر العظيم الذي تعرّض له، فلماذا لا تسرع هي الأخرى، إلى من تثق فيه وتهمس إليه ما كان، فقد يكون له رأى!!

وأسرعت خديجة وحدها، إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وراحت تروي له ما حدث لمحمد، وما تعرض له في نبرة المقتنعة بما كانت تقول، المؤمنة بما كانت تروي، والرجل منصت إليها في هدوء، فقد كان ممن قرأوا الكتاب، وكان على النصرانية، ولم يكن على دين قريش.

ورفع ورقة وجهه في النهاية، وبعد أن أتمت خديجة حديثها في هدوء قال:

- قدّوس، قدّوس هو الله، يا ابنة عم، والذي نفس ورقة بيده إن كنت قد صدقتني الحديث، فإن ما رآه محمد في الغار، إنما هو الناموس الأعظم الذي أنزل على موسى وعيسى من قبل، وأن محمداً لهو نبي آخر الدهر، إنه دعاء إبراهيم عليه السلام، وبشرى عيسى، وأن أهل الكتاب ليعرفونه في توراتهم.

ونزل حديث ورقة على قلب خديجة برداً وسلاماً، وأنها لتستشعر الزهو، وتحس الفخار وتعرف أن شعورها لم يكذبها أبداً يوم تخيرت الأمين زوجاً، وأن فراستها فيه كانت صادقة صائبة، وأنها أحسنت بوقوفها إلى جانبه، وحدبها عليه، وبرها به، وتباعدها عن تصرفاته، وحبّه للوحدة، وإغراقه في البعد عن الناس، ولجوئه إلى الغار، لأيام وأسابيع وشهور يتحنث ويتفكر.

وإنها اليوم لتحس والسعادة تغمر قلبها أنها تجني ثمار ما غرست، وأن الله رب محمد، ومرسله، ومرسل ناموسه الأكبر إليه في الغار، لابد أن يجزيها أجر العاملين، الصادقين المؤمنين.

وعادت خديجة إلى بيتها، والدنيا تتضاءل أمام فرحتها، عادت لتجد البيت على حاله من الهدوء والسكينة والصمت.

كان الأمين لم يزل مستغرقاً في نومه، ولكن.. أي نوم! نوم تقطعته الرؤى، وتخللته الأحلام اليقظى، فصوت جبريل لم يزل يدوي في خياله، وصورته، مازالت تملأ كل فراغ كان محمد يراه ثم..

ثم هاهو ذا يسمع الصوت القدسي نفسه مرة أخرى، وهاهو ذا جسد محمد يضطرب، ويهتز وينصب عرقه مثل الجمان، وإذا هو بين النوم واليقظة، وهو في تمام الوعي، يصغى من جديد إلى تكليف جديد.

يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربّك فكبّر * وثيابك فطهّر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر.

وأسرعت خديجة البارّة مرة أخرى إلى زوجها تذهب عنه الروع وتطمئنه، وتسمع إليه، وهو يتلو ما أوحى إليه من كتاب ربه، ثم تطلب إليه في همس رقيق، أن يريح نفسه، ويعاود النوم من جديد.

أي نوم! وأي راحة كانت تشير خديجة إليها لمحمد رسول الله، وقد أمره ربه بالقيام، وهاهو ذا يقوم طاعة وامتثالا، ليستجيب للأمر الثاني، ويسارع إلى تنفيذه وهو الإنذار.

قم، فانذر، فكيف ينام، أو كيف يستريح، والله الحق يأمره بالقيام بالانذار، ويعين له الطريق الواجب اتباعها وهي التكبير، الله أكبر.. الله أكبر.

وأصغت خديجة طويلاً إلى زوجها، في الوقت الذي راحت تدوي فيه أصداء كلمات ورقة في خيالها المرهف، وقد قال عن محمد إنه نبي آخر الزمان، وأن ما رآه في الغار هو الناموس الأكبر. الذي كان ينزل على موسى وعيسى، وأنها الآن لتستمع إلى جديد.

لقد عاد الناموس إلى محمد، وهاهو ذا يتلقى أوامر جديدة تعين طريق الجهاد، الذي أنبأها به ورقة.

ووجدت خديجة نفسها تصارح زوجها بما سمعت ثم، إذا ببرها وحنانها، وحدبها على محمد، يتعالى إلى أقدس درجات التسامي، فيستحيل إلى إيمان صادق بما قال، وتصديق مطلق، لكل ما تحدث به.

وآمنت خديجة بمحمد، وخلعت دين قريش وأرباب من كفروا بالله، ودخلت في دين الإسلام واتبعت زوجها على ملته، وقد قرّ بها العزم على أن تقف إلى جواره، وأن تشد أزره، وأن تعينه، بما تستطيع في جهاده، تصورت وعثاء الطريق، وطولها وعناد من سوف يلقونه فيها من الآن.

وكان إيمان خديجة برسالة محمد، أول حلاوة تذوقها وهو في بداية مرحلة الجهاد الشاق، بل إن هذا الإيمان السريع من جانب خديجة والتصديق بما قال محمد، ثم الاستجابة للدعوة، كان ولاشك بلسم الراحة والهدوء الذي أحسه رسول الله، ووجد فيه بشرى النصر المؤز، وآيته الكبرى، التي سوف تتلوها آيات بينات بعد آيات.

وخرج محمد ذات يوم من بيته، وبينما كان يطوف بالكعبة، بيت الله العتيق، إذ رأى ورقة بن نوفل الذي أسرع إليه في لهفة وشوق. يتعرف أنباءه ويريد أن يعرف إلى أي حد وصل من حدود الرسالة.

وقال ورقة لمحمد، في حرارة وصدق، والذي نفس ورقة بيده، إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى.

وقد كان هذا هو نص ما قاله لخديجة من قبل، ولكنه - ومادام قد انفرد بمحمد صاحب الرسالة، فليكن معه أشد صراحة، وأكثر وضوحاً، وإذا هو مستمر في حديثه يقول:

ولتكذبّن، ولتؤذيّن ولتخرجن من ديارك ولتقاتلن، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرًا يعلمه..».

وراحت الكلمات تدوي في خيال محمد، وكأنما هي دقات كانت تفتح لعينيه الأبواب بعد كل دقة منها ليعرف. ويعلم، ويستقر. فلا يرده هول، ولا يروعه شر، ولا يتراجع أمام خطب من الخطوب.

سيكذبونه.. اللهم هذا حق.

وسيؤذونه.. اللهم هذا صدق.

وسيخرجونه من دياره، وذلك كان وجه العجب، لماذا يخرجونه، وهو الصادق الأمين، الذي ما عرفوا عليه كذبا ولا سمعوا منه إلا صدقا!! فقال: «أو مخرجي هم».


له بقية
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
shiko
عضو ذهبى
عضو ذهبى



عدد المساهمات : 213
تاريخ التسجيل : 27/05/2009

خديجة بنت خويلد Empty
مُساهمةموضوع: رد: خديجة بنت خويلد   خديجة بنت خويلد I_icon_minitimeالأحد يوليو 12, 2009 12:34 pm

وأجاب ورقة بن نوفل، أن القوم سيخرجونه، لأنه سوف يجيئهم بما يفرق بين الأب وابنه، والأم وابنتها، وبما يسفه أحلام العشيرة، ويعيب أربابها. وهذا أمر سيبدو في عيونهم عظيماً، ولن يسكتوا عليه، استجابة منهم للعرف، والتقاليد المتوارثة ثم، لإهانة الأرباب.

ومال ورقة على محمد يحتضنه، ويقبل رأسه تبرّكاً به، وتشجيعاً له، وتهويناً على ما سوف يلقى في حياته القادمة من تكذيب وإيذاء وإخراج من الدمار.

وافترق الرجلان، وعاد محمد إلى نفسه يسترجع ما سمع، ويربط بينه وبين ما أوحي إليه وأصداء الأمر بالقيام والإنذار يدوي في خياله.

كيف يقوم وينذر؟! ومن ينذر من الناس؟! هذا أمر تنفيذه يستوجب التوجيه الحاسم المحدد ولاشك. فلينتظر أمراً جديداً بالتوجيه الذي يرجوه.

وفتر الوحي أمداً طويلاً، تبلبل معه خاطر محمد، واعتوره الخوف، وغلبه القلق، وبان عليه الوجد، وراح يصارع الشوق. فكاد يصرعه طول الترقب والانتظار.

وخديجة، خديجة الحانية، ذات القلب الكبير الدافق بالحدب والعطف، إنها إلى جانبه، وعلى عهدها الذي عرفه محمد، وعرفت هي به، المواسية، والمشجعة، التي تدعو إلى التريث والصبر. ومزيد من التشجيع، فقد يكون بعد العسر يسر، وبعد الضيق فرج، وبعد الصبر نصر مؤزر، فإن الله الذي تخيّر واختار، ووجه وأمر بالقيام والانذار، لابد أنه محكم لدينه، يؤجل الوحي. وأنه ما ودع محمداً ولا قلاه.

وعرفت خديجة في برها، كيف تشحن الروح الكبير بشحنة من الطاقة القادرة الغلابة، وإذا باللهفة تزول، والقلق يتراجع، والثقة تغمر القلب الفياض بالنور، وإذا بالوحي يعود، وإذا بمحمد يستمع إليه، ثم يقرأ من بعده كما أمره الله.

والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى * ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى * فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث.

وبان الأمر، ووضحت معالم الطريق. وتجلت القدرة وتعالت لتذكر محمداً بعظيم المنن السابقة التي نالها، فالله ما ودعه وما قلاه، وأنه ليبشره بآخرة أفضل وأعلى درجات من الأولى، ثم يعدد له بعد ذلك بعض مننه عليه، فقد آواه، في يتمه، وحماه شر الحاجة والسؤال، وهداه إليه، وأرشده إلى الحقيقة التي حار وهو يفكر فيها، فاهتدى إلى الله الذي خلق وعلّم، ثم أغناه بعد ذلك ويسّر له رزقه، وأخيراً، راح سبحانه وتعالى يوصيه ألا يقهر اليتيم وألا ينهر السائل وأن يتحدث دائماً بأنعم الله عليه، وأن يشكره، فبالشكر تدوم النعم.

ولم تكد تطمئن نفس محمد إلى أن الله ما ودّعه وما قلاه، حتى عاوده الشوق من جديد إلى الجهاد. وأنه ليذكر قول الله له: قم فأنذر، فكيف يقوم؟ ومن ينذر؟ وإلى من يتوجه بهذا الإنذار العظيم ؟!

وجاءه الجواب، ونزل الوحي... وأنذر عشيرتك الأقربين * واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون.

أما وقد آمنت خديجة بنت خويلد، أقرب الأقربين، فتلك هي الخطوة الأولى، وإن بقية الخطوات لتتلوها بعد ذلك في يسر، فها هو ذا على بن أبي طالب، يعلم بالدعوة، ويدخل الدين ومن بعده زيد بن حارثة مولى محمد ومتبناه، ثم من بعد هؤلاء، سمع أبو بكر بالأمر وارتاح له واستشعر فيه الصدق، فآمن، وأعلن إسلامه، ثم.. بدأت الدعوة بعد هذا تتسع في محيط من السريّة محدود، فدخل في دين الله، عن طريق أبي بكر، عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، ثم أبو عبيدة عامر بن الجراح، وعبيدة بن الحارث. وسعيد بن زيد، وخباب بن الارث، وفاطمة بنت الخطاب زوج سعيد بن زيد، ثم أسماء بنت أبي بكر، ثم كثيرون وكثيرات.

وعلم الله الصلاة لرسوله فراح يؤديها، ثم علّمها لمن اتبعوه، فكانوا يؤدونها، فرادى وجماعات، إذ حرصوا أن تبتعد الدعوة ما أمكن عن التوغل في مجتمع قريش حتى لا يثوروا عليها، وهي لما تزل بعد في بدايتها، ولم تعتز بكثرة تستطيع أن تثبت عليها وأن تجاهد من أجلها.

ومرّت ثلاث سنوات، على هذه السرية المضروبة على الدعوة، وقد قام محمد خلالها بإنذار عشيرته الأقربين، إذا، فلينتقل حسب الأمر، من القيام ثم الإنذار إلى التكبير، والتكبير، هو الجهر، هو الخروج بالدعوة من الحيز المحدود والخاص إلى النطاق العام.

وخرج محمد إلى قريش كلها، وعلا صوته الكريم يردد «الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله.. محمد رسول الله».

وذُعرت قريش، ثم راحت تسترد ذعرها في هدوء، ثم ما لبثت أن توثبت، وتثمرت وأضمرت السوء لمحمد، وتحفّزت له، ووقفت في وجهه تناضله، وتجاهده، وهو وحده، والقلة المستضعفة من ورائه يجاهد ويجاهدون ويثبتون.

وركبت قريش رأسها، وتربصت بمحمد، وحاولت في بادئ الأمر أن ترده بالحسنى فلم يقبل إلا أن يؤمنوا بأنه لا إله إلا الله، وأنه هو الصادق محمد رسول الله.. «وأن يبرأوا من دينهم ويكفروا بأربابهم، فأبوا، وأسرفوا في الاباء، وتبين لهم أنهم يرتطمون بصخرة صامدة، فكان أن اجتمع رأيهم على مقاطعة المسلمين، بل بني هاشم جميعاً. ومحاصرتهم في شعاب الجبل والإمعان في هذا الحصار إلى حد الخروج به إلى الحرب الرهيبة التي تحول دون وصول الزاد والماء للمحاصرين.

وتبعت خديجة محمداً إلى شعاب الجبل. تبعته لتقف إلى جانبه تشجعه وتعينه، وتقوم على خدمته، وتشعره أنها معه دائماً، إنها إلى جواره، وأنها لن تتركه أو تتخلى عنه أبداً.

كانت خديجة في تلك الفترة، في سن لا تسمح لها بتلك الحياة الخشنة، وكانت حالتها الصحية تفرض عليها أن تبقى في بيتها بعيدة عن صخب الجهاد، ووعثاء النضال الشاق، لتستريح ولكنها أبت، أبت إلا أن تثبت إلى جانب محمد، وأن تكون رفيقة حصاره، كما كانت رفيقة يساره وظلت إلى جانبه.

ومرّت ثلاث سنوات على الحصار الرهيب وقريش تأبى إلا أن يشتد ويعظم وأن تقسو فيه. وتغلظ قلوب قريش بغية أن تلين قناة محمد ومَن تبعه، ليعودوا إلى دين العشيرة، ولا فائدة.

لقد روّع قريشاً ثبات المسلمين، وأن السادة في قريش ليسعون في نقض عهد المقاطعة والخروج من نطاق الحصار، وقد ضجوا منه، وهم الذين أحكموه، وراحوا يكسرون حدّته، ثم هاهم أولاء يختلفون ويغلظ بعضهم لبعض ويأبى نفر منهم إلا أن يصل أهله من المحاصرين، وكان أول مَن أقدم على هذا هو حكيم بن حزام، الذي أصرّ على أن يبعث الزاد إلى عمته خديجة مهما يكن الأمر، وبالرغم من تعرض أبي جهل له.

ووجد السادة من قريش أنهم قد بدأوا يختلفون، فتراجعوا عن العهد، وبدأ الحصار يضعف ثم يتلاشى ولكن...

ولكن بعد ثلاث سنوات عجاف شداد، كان لها أثرها الظاهر على الكثير من الشباب، فكيف بخديجة؟!

أجل، كيف بخديجة التي أسنت، وبدأت الشيخوخة تعبث بها، وبالرغم من هذا كانت شابة القلب والجنان، قوية الحدب على محمد والمسلمين.

وعاد المحاصرون من شعاب الجبل، وعادت خديجة مع رسول الله إلى بيتها مرة أخرى.

ثم، ما لبثت أن راحت تحيط بها العلل وتلعب بها الأمراض، ويؤثر فيها الضعف الجسدي وقد بدأت تظهر آثار الإرهاق ونتائج سنوات الحصار.

وحان الحين، وحم القضاء، ولبت خديجة نداء ربها.

تفتحت أبواب الجنة للروح الطاهرة، روح المسلمة الأولى، المجاهدة الأولى، المناضلة، التي لم تغلب يوماً، الروح الدافع الذي وقف وراء محمد يدفعه، ويشجعه، ويواسيه، ويعينه.

ماتت خديجة بنت خويلد، ماتت أم المؤمنين، نور بيت محمد، وأم المؤمنين وأم بنات رسول الله المطهرات.

ماتت، والرسول صلى الله عليه وسلم في معمعان معركة المصير، أحوج ما يكون إلى وجودها إلى جانبه، تعينه، وتشجعه، وتواسيه.

ماتت أم المؤمنين أول مَن أسلم وآمن بدين الله، وهي في الخامسة والستين من عمرها، وكان موتها فاجعة ألمت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجعة قاسية، جاءت بعد فجيعته في عمه وحاميه أبي طالب، فتضاعفت النكبتان، وما أسرع ما أحس محمد بهول المصابين.

ماتت خديجة، الروح الحاني، والقلب الكبير، ماتت في وقت كان محمد أحوج ما يكون إلى وجودها بجانبه ولكن، تلك كانت إرادة الله، وتلك كانت مشيئته، وذلكم كان أجلها، ولكل أجل كتاب.

ماتت خديجة - رضي الله عنها وأرضاها، ودفنها سيدنا رسول الله «بالحجون» وصلى عليها ونزل قبرها وألقى عليها النظرة الأخيرة.

وتفتحت أبواب السموات العلا للروح الطاهرة، ودخلت في جنة الله التي أعدها لها وبشّرها بها محمد، وقد قال له جبريل ذات مرة، إن الله يبلغ خديجة سلامه ورضوانه، ويبشرها ببيت في الجنة من قصب

لا صخب فيه، ولا نصب.

ومن كان أجدر من خديجة بالجزاء العظيم والمثوبة الجليلة جزاء

ما قدمت للرسول وللإسلام وللدعوة، إلا أنها كانت خير نساء الدنيا، ثم إنها في الآخرة، لخير نساء الجنة، هي، ومريم ابنة عمران.



تم بحمد الله
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
د/تامر محمد
مؤسس المنتدى
د/تامر محمد


عدد المساهمات : 694
تاريخ التسجيل : 24/05/2009
الموقع : مؤسس منتدى طائر الابداع المصرى

خديجة بنت خويلد Empty
مُساهمةموضوع: رد: خديجة بنت خويلد   خديجة بنت خويلد I_icon_minitimeالأحد يوليو 12, 2009 12:55 pm

شكرا للكاتبة المتميزة
شكرا لاضافتك للموضوع بالمنتدى
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
أحمد جلال
عضو متميز
عضو متميز



عدد المساهمات : 36
تاريخ التسجيل : 13/07/2009

خديجة بنت خويلد Empty
مُساهمةموضوع: رد: خديجة بنت خويلد   خديجة بنت خويلد I_icon_minitimeالثلاثاء يوليو 14, 2009 9:47 pm

موضوع شامل ورائع عن أحب زوجات الرسول
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
rana
أميرة المنتدى
أميرة المنتدى
rana


عدد المساهمات : 144
تاريخ التسجيل : 30/06/2009

خديجة بنت خويلد Empty
مُساهمةموضوع: رد: خديجة بنت خويلد   خديجة بنت خويلد I_icon_minitimeالسبت يوليو 18, 2009 7:11 am

كتاب متميز جدا
شكرا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الهام
عضو فضى
عضو فضى
الهام


عدد المساهمات : 105
تاريخ التسجيل : 30/06/2009
العمر : 35

خديجة بنت خويلد Empty
مُساهمةموضوع: رد: خديجة بنت خويلد   خديجة بنت خويلد I_icon_minitimeالثلاثاء يوليو 21, 2009 6:26 am

كتاب جميل فعلا عن سيدة نساء المسلمين
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
خديجة بنت خويلد
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
طائر الإبداع المصرى :: المنتديات :: المنتدى الاسلامى-
انتقل الى: