وكان الوضع في خليج أبوقير ملتبسا، وهذا لأسباب عدة. من ذلك أنه، عبر آلاف السنين، كثيرا ما أدت التحركات الجيولوجية وتغيرات المناخ، وحتى تدخل العامل البشري، إلى تغيير مجرى وأهمية الفروع الرئيسية للنيل وأذرعها الثانوية. وكذلك، ظهر أن منطقة الفرع الكانوپي شهدت، في القرن الثامن الميلادي، غمر المياه لمثلث فيها امتداده نحو عشرة كيلومترات، وذلك بين ما يسمى اليوم جزيرة «دسوقي» الصغيرة وقرية أبوقير وميناء «المعدية». وهكذا، فإن بقايا الآثار القديمة ــ والتي سبق أن أَثَّرت فيها بالتحطيم وإبعاد بعضها عن بعض يَدُ الأحداث الزلزالية والجيولوجية من هزات أرضية وطوفان المياه وهبوط الأرض، وكذلك الأحداث المائية كالفيضانات واختلاف مستوى البحر ــ صارت في معظمها مغمورة بالمياه، ثم طُمرت بكميات هائلة من ترسبات الرمال والطمي في شرقي الدلتا القديمة. ومن جهة أخرى، وإضافة إلى ذلك، فإن ثقل كتلة الترسبات التي صارت ذات كثافة أعظم فأعظم مع مرور الزمن، وكذلك عدد من التحركات الزلزالية، جميع هذا أدى ــ نحو عصر نهاية الحضارة اليونانية والرومانية المتأخرة Antiquité tardive ــ إلى تغير انقلابي شامل لشمال دلتا النيل وشرقها، حيث تحولت شواطئ تلك المناطق وبحيراتها الساحلية إلى سهوب مملحة وغير صالحة للزراعة. وباختصار، فقد قامت التحولات الطبيعية والبيئية بدور جوهري في حركة التاريخ، إلى درجة أن ستة عشر قرنا من الحضارة في منطقة «الفرع الكانوپي»، من الفترة المتأخرة من التاريخ المصري إلى دخول العرب إلى مصر، صارت غائبة عن أعين البشر!
هذه الملاحظات العامة جعلت الباحثين يفكرون في الحاجة إلى منهج بحثي ذي طبيعة خاصة. إذ يجب وضع تصور لخطة بحث منهجية بحيث تكون مبرمجة على نحو يؤدي القيام بها إلى الكشف عن بيانات أثرية يمكن تفسيرها في حدود تاريخ إشغال بقعة الأرض المعنية وتطور مظهر مشاهدها الطبيعية. ومن أجل تحقيق هذا جميعه كان لزاما علينا أن نقوم أولا بدراسة طوپوغرافية الموقع والصورة التي شغل بها البشر ذلك الموقع، ومن ثَمَّ أن نقوم بوصف البُنى الغارقة التي تمت ملاحظتها، وذلك من أجل إنشاء خريطة أثرية لهذه المواقع. ونظرا للأهمية التاريخية ولاتساع منطقة كانت سوق مصر، فإن هذا العمل التحضيري كان لا بد وأن يُنجز أولا حتى تظهر من بعد ذلك ضرورة تالية تقتضي تكثيف الأبحاث الأثرية في بعض المواقع المعينة باعتبار أن هذا التكثيف هو أمر له مسوغاته .
فكيف سرنا في ذلك العمل؟ في بداية أعوام العقد الأخير من القرن العشرين، كنا قد كُلِّفنا، فعلا، باستكشاف بعض المواقع الصعبة، حيث كانت توجد بقايا حطام متعددة، ومنها مكان غرق سفينة الشحن «سان دييگو» في مياه الفلپين. وقد جرى في ذلك الوقت استخدام أجهزة القياس المغنطيسي ذات التجاوب المغنطيسي النووي (RMN) (2) ــ وهي الأجهزة التي كانت «هيئة الطاقة الذرية» (CEA)(3) قد استعملتها للحصول على معرفة متعمقة للمنطقة المعنية، وذلك قبل الإقدام على أية عمليات تنقيب. وقد كان استخدام هذه الأجهزة مناسبا تماماً لإقليم «الفرع الكانوپي» للنيل لتحديد شكل الأرض القديم (طوپوغرافية المكان)؛ ثم إننا قمنا بإضافة جهاز سونار للمسح الجانبي(4). ويسمح هذا النوع من المعدات بتقدير القيمة المحلية للحقل المغنطيسي الأرضي وشذوذاته anomalies، وهي علامات يحتمل أن تدل على وجود جسم أثري.
يكشـف كـــل من المقياس RMN وســــــونــــار المســـــح الجــــانبي (وهو مــا ســـنعود للحديث عنـــــه) انقطـــاعات المقـــادير الفيزيائيــة discontinuités des grandeurs physiques مثل انقطاعات الحقل المغنطيسي المحيط ambiant، أو استجابة الأمكنة صوتيا réponse accoustique، وهي التي اصطلح على تسميتها شذوذات. وفي حالة التطبيقات الأثرية، فإن مدى سعة الشذوذات ذات الأهمية يكون ضعيفا للغاية؛ وحيث إن الإشارات التي يكون مصدرها أجساما أثــــريــــة تتداخل وتتحد مع الشذوذات الناتجة من التراكيب الجيولوجية، فلا بد من طريقة نستطيع بها التمييز بينهما. لهذا كله، فإن فاعلية معالجة البيانات وتحليلها يعتمدان على مدى حساسية أجهزة التقاط الإشارات وعلى الطريقة التي يتم بها تشغيلها.
ومن الناحية العملية، فإن أجهزة الالتقاط الكبرى، أي الجهاز RMN وسونار المسح الجانبي، توصل بواسطة كَبْل(5) câble بسفينة يوجد على ظهرها الحاسوب المستقبل للبيانات والقائم على تخزينها ومعالجتها. وأما موقع السفينة، فإنه يُراقب ويُحدد في الزمن الفعلي عن طريق نظام تحديد المواقع العالمي(GPS) (6) التفاضلي différentiel. ومع هذا الشكل المعدل لنظام التحديد المكاني الأمريكي، يمكن تحسين دقة البيانات بفضل شبكة من المحطات الثابتة. والمقارنة بين المواقع ــ التي تحددها السواتل(7) لهذه النقاط المرجعية points de références بين مواقعها الفعلية المعروفة بدقة، تسمح بتحديد مكان شيء ما متحرك بدقة ــ كبيرة جدا. ومن أجل الحصول على مستوى الدقة الضروري في دراسة الآثار، فإننا أقمنا محطة مرجعية station de référence بنظام تحديد المواقع العالمي GPS.
أما فيما يخص مواقع أجهزة الالتقاط بالنسبة إلى السفينة، فقد حُددت بحسب الوقت الفعلي تحديدا دقيقا جدا بما يقرب من بضعة سنتيمترات، وذلك بفضل تعيين الموقع صوتيا localisation acoustique: فيصدر جهاز إرسال مرتبط بجهاز الالتقاط المغمور في المياه وتسحبه السفينة، بانتظام إشارة صوتية باتجاه مستقبل مثبت على هيكل السفينة [انظر الشكل 3]. ويمكن استخدام عدة أجهزة إرسال في الوقت نفسه. وهكذا يتحدد موضع كل جهاز التقاط بالنسبة إلى السفينة، وهي التي يُعرف موضعها، كما سبق وأشرنا، عن طريق النظام GPS. وبذلك يُحدد الموقع الجغرافي لكل جهاز التقاط بحسب الوقت الفعلي.
وتخضع البيانات المسجلة إلى معالجة أولية في الوقت الفعلي أثناء عملية الاستكشاف، بحيث يجري يوميا عمل خرائط للتضاريس التي تحت المياه، وهي خرائط بأجهزة قياس الأعماق تحت المياه cartes bathymétriques في المنطقة المستكشفة. هذه الخرائط تكملها «صور فوتوغرافية صوتية»، أي صور القاع التي يحصل عليها جهاز السونار.
إن بيانات الكشوف هذه هي التي يبحث فيها علماء الآثار عن مؤشرات على وجود بنى أثرية؛ ثم يقوم غواص ذو خبرة، أو «إنسالة»(
مزودة بكاميرة تصوير، بفحص دقيق لكل موقع قد يحتوي على بقايا أثرية. ولهذا الغرض يستخدم الباحثون أجهزة سبر الرواسب sondeurs à sédiments، وهي معدات صوتية تستغل ارتداد الموجات الصوتية réflection des ondes، وصممت بحيث تكشف طبقات stratigraphes القيعان تحت المياه، وبخاصة مَيْل inclination تلك الطبقات وسُمكها. ولكن، وحيث إن هذه المعدات كان قد جهزها علماء الجيولوجيا من أجل استكشاف أعماق الأرض، فإن فاعليتها ضئيلة في فحص الأمتار الأولى تحت قاع البحر، وهنا لا يمكن الوصول إلى معلومات يقينية إلا بأخذ عينات من أعماق التربة أو بالتنقيب الأثري. وللوصول إلى تحديد دقيق لمواضع جميع المكتشفات الأثرية، فإن السفينة تُزود أيضا بمسابر لالتقاط الصدى في الأعماق échosondeurs، وهي المسابر التي تقدم لنا خريطة تقيس أعماق التضاريس التي تحت الماء، وهي الأداة التي لا غنى عنها من أجل تفسير بيانات الكشوف التي وفّرتها أجهزة الالتقاط.
فيم تستخدم المقاييس RMN؟ إن الحقل المغنطيسي الأرضي ينتج من ظواهر عدة منوعة ذات متغيرات في الزمان والمكان، ومنها مفعول الدينامو effet dynamo لقلب noyau الأرض، وتغيرات تركيبة القشرة الأرضية، وتآثرات الشمس والأرض، والتيارات الكهربائية الدوامية telluriques أو تلك التي في الغلاف الجوي الأيوني ionosphériques، إلى غير ذلك. وعلى نحو إجمالي، فإنه يمكن النظر إلى الحقل المغنطيسي الأرضي وكأنه ثنائي قطب مغنطيسي dipôle (وهو المعادل لمغنطيس وقطبيه الشمالي والجنوبي) ينشر على سطح الأرض حقلا مغنطيسيا قيمته 20 ميكروتسلاmicroteslas عند خط الاستواء و60 في كل من القطبين؛ ثم يضاف إلى هذا الحقل عدد من الشذوذات محددة تحديدا جيدا على الخريطة، مداها من مرتبة 10 ميكروتسلا، وعدد من الشذوذات الموضعية ذات الأصول الجيولوجية، وتغيرات من بضع عشرات من النانوتسلا ما بين يوم وآخر، أي من مرتبة الشذوذات التي مصدرها البقايا الأثرية.
إذن، في وسط هذا الركام المغنطيسي يكون على الباحثين أن يستدلوا على الشذوذات التي تسببها بقايا الآثار في قاع البحر. ولكن المقاييس RMN قادرة على قياس الحقل المغنطيسي الأرضي أكثر من ألف مرة في الثانية و بدرجة من الدقة تبلغ5/000 100 من قيمته. هذه القدرة تبدو كافية من الناحية النظرية للاستدلال على الشذوذات المغنطيسية التي مصدرها البنى الأثرية. ومع ذلك، وعند الضرورة، فإنه يمكن زيادة هذه القدرة عن طريق قياس التدرج gradient المغنطيسي، أي تغيرات الحقل المغنطيسي بدلالة المسافة بين جهازين للالتقاط مسحوبة معا في اللحظة نفسها.
وتسمح المعالجة المناسبة لهذين النوعين من البيانات بحذف التغيرات الزمنية للحقل المغنطيسي الأرضي في الوقت الفعلي. هذه الطريقة ـــ مضافا إليها لتكميلها، المقاييس RMN ـــ تسمح باكتشاف أشياء ذات مغنطيسية شديدة الضعف، حتى ولو كانت مطمورة عميقا تحت الرواسب. واستخدام المقاييس RMN عملية يستغرق إجراؤها وقتا طويلا. ففي خليج أبوقير يتطلب استكشاف ميدان البحث (وهو 110 كم مربع) ــ على أساس تقسيمه إلى شبكات باتساع عشرة أمتار ــ تغطية000 22 كم؛ أي أكثر من نصف محيط الكرة الأرضية! وهناك ما هو أكثر من ذلك. فهذه التغطية المغنطيسية يجب أن تخضع لمتطلبات خاصة، حيث يتعين أن تكون خطوط مرور المكاشيف المغنطيسية، ومن ثم خطوط مرور السفينة، خطوطا مستقيمة ومتوازية، وأن تكون سرعتها ثابتة ، وأن يكون اتجاهها ثابتا بلا تعديلات مباغتة من حيث الارتفاع. ولهذا كله، فإن الأحوال الجوية الاستثنائية هي وحدها التي تُمكّن من الوصول إلى نتائج مُرضية.
وهناك المكمل الجوهري للمقاييس RMN، وهو سونار المسح الجانبي، الذي ينتج صورة صوتية لقاع البحر على شريط يتراوح طوله بين 50 و 150 مترا من كل جانب من جانبي السفينة؛ فهو يبرز وجود صخور أو أي جسم آخر له بعض البروز يكون مستقرا في القاع، كما يستطيع إعطاء إشارة حول حجم تلك الأجسام عن طريق قياس الظل الذي تعكسه. ثم هناك أيضا مُحَوِّلٌ للطاقة transducteur، يسميه أعضاء البعثة العلمية «السمكة»، تجره السفينة من ورائها. والموجات الصوتية التي يصدرها باتجاه عمودي على محور السفينة تنعكس بوضوح إلى درجة أو أخرى على القاع، ثم تقوم «السمكة» بالتقاطها. وتختلف انعكاسات الموجات الصوتية المرسلة بحسب طبيعة القاع. وهكذا، مثلا، فإن قاعا غير منتظم يصدر انعكاسا أقل مما يصدره قاع رملي. وتظهر الحواجز ومظاهر عدم الانتظام، وهي التي تمنع انعكاس الموجات الصوتية، بالأسود في بيانات كشوف التضاريس التي تحت المياه. ويتمتع نظام سونار المسح الجانبي بميزة أنه يغطي إلى حد كبير المنطقة قيد الدراسة، ولكن له جانبا سلبيا: وهو أنه ليس دقيقا. ومع ذلك، فإن حجم الظلال الصوتية ombres acoustiques التي تُسجل على بيانات الكشوف يعطي فكرة عن حجم البُنى المكتشفة. وحين تتم معالجة البيانات التي يوفّرها السونار، فإنه ينتج منها، عن طريق وضع الشرائط المستكشفة جنبا إلى جنب، خريطة مصورة فسيفسائية للمنطقة موضع الدراسة.
وبفضل هذه الأجهزة الكبيرة، وبفضل عمليات السبر sondages، استطعنا تكوين خريطة مغنطيسية تفصيلية للمنطقة التي كانت موضع اهتمامنا. وهكذا، ظهر في تلك المنطقة العديد من البقايا الأثرية المغمورة بالمياه والمطمورة بالرواسب. كما ظهرت تكوينات جيولوجية تم تَعَرُّفها على نحو واضح، منها صدوع وخنادق وقنوات وأحواض مجارٍ مائية تملؤها رواسب مختلفة مما تتكون منه البقعة المحيطة. ويمكن للمقاييس RMN الكشف عن مواد ضعيفة المغنطيسية ، ومن ذلك مثلا، ركام الطوب المحروق أو السيراميك، وفي الوقت نفسه، فإنها تكشف عن وجود عناصر ذات كثافات مختلفة في بيئة مغنطيسية مستقرة.
ويظهر من هذه الخريطة أن المواقع موضوع الدراسة قد تحولت هيئتها مرات عدة بتأثير العمليات الجيولوجية، وكذلك بسبب الكوارث الضخمة التي تعرضت لها. وهكذا، فقد ثبت من الآن فصاعدا أن حركة بطيئة من هبوط subsidence الأرض، أي انخفاض بطيء للقشرة الأرضية، قد أصابت هذا القسم من الحوض الجنوبي الشرقي للبحر المتوسط. وقد أكدت الملاحظات الجيولوجية حدوث هذه الظواهر عن طريق اكتشاف آثار زلزالية في القاع. كذلك، فإن التحليل الجيولوجي لأمكنة المنطقة قد أظهر علامات مميزة على ظاهرة «تسيل التربة» liquéfaction des sols، وذلك في بعض المواقع وبخاصة في خليج أبوقير. وتبدأ ظاهرة «تسيل التربة» هذه بالتكون نتيجة ضغط كبير، سببه مثلا هزة أرضية في بقعة صلصالية. وقد تسببت تلك الظاهرة في حوادث من التدمير الهائل، منها انهيار المباني في كوبيه Kobé عام 1995، وكذلك في مدينة مكسيكو عام 1985. ومن جهة أخرى، قد ينتج «تسيل التربة» من تأثير ضغط ثقل مبان ضخمة ، مصحوبا بزيادة الأحمال نتيجة لفيضان استثنائي أو لـ«تسونامي». وفي مثل هذه الحالات، فإن الأرضية المشبعة بالمياه إلى أقصى درجة تُغَيِّر من سلوكها، وتأخذ في الانسياب وفي طرد جزء من تلك المياه، وهو ما يؤدي إلى هبوط مفاجئ في التربة. وفي موقع «تونيس»، كانت هذه الظواهر سببا في تدمير هائل يفسر اختفاء قسم كبير من منطقة «الفرع الكانوپي» (ومن «الميناء الكبير» للإسكندرية ذاتها) تحت المياه.
تثبت النصوص القديمة حدوث هزات زلزالية وموجات مدّ شديدة الارتفاع في هذه المنطقة. وفيها ذِكر لموجة مدّ حدثت بتاريخ 21/7/365م وأصابت جميع شواطئ البحر الأبيض المتوسط الجنوبية الشرقية، وفيها أيضا ذِكر لهزة أرضية حدثت في منتصف القرن الثامن الميلادي وأدت إلى اختفاء مدن على الساحل الليبي. وبالتوازي مع هذه النصوص، فإن اكتشافات لمنقوشات كتابية سمحت بحل لغز من ألغاز تسميات الأمكنة القديمة: فالمدينة المصرية التي كان المصريون يسمونها «تونيس» إنما هي نفسها التي كان اليونان يسمونها «هرقليون». وقد سمحت استدلالات القياسات المغنطيسية وعمليات السبر الأثري، معا، بتكوين فكرة عن الشكل الطوپوغرافي للمدينة [انظر المؤطر في الصفحة 62].
في هذه المنطقة ذات العمق القليل، تَمَّ الاستدلال على وجود أحواض قديمة لروافد نهر النيل، والفرع منها الواقع إلى أقصى الشرق مفصول عن الأرض بعدة ألسن من كثبان الرمل لا تزال ظاهرة، جزئيا، للعيان إلى اليوم. ويحد هذه المنطقة غربا كثبان رملية حتى المصب. وكان مجرى المياه القديم يصل إلى الشاطئ الحالي الذي يحيط بميناء «المعدية»؛ وأما على الشاطئ الغربي للمصب، فإن الكثبان الرملية تأخذ بالتلاشي شيئا فشيئا باتجاه الشمال، حتى نجد أنه قد حل محلها شريط صخري يأخذ بالامتداد باتجاه جزيرة «دسوقي» الصغيرة.
إذن، كان الشاطئ القديم في هذا الموقع صخريا. وثمة نطاق متسع من المنخفضات ــ من المحتمل جدا أنه يشير إلى بقايا بحيرات ذات مياه قليلة الملوحة وبقايا مستنقعات ــ يمتد باتجاه الغرب من الشريط الرملي الذي كان يحد رافد النيل. وعلى مقربة من تلك الكثبان، وعلى نوعٍ من شبه جزيرة واقعة بين أحواض الموانئ إلى الشرق والبحيرة إلى الغرب، كانت تقوم مدينة «تونيس» أو «هرقليون» ومعبدها؛ حيث يوجد نطاق واسع الامتداد ومنبسط، مادته من الطمي (الغِرْيَن) ومن الطين، وفيه أحيانا هنا أو هناك بعض النتوءات، وكان يتجه نحو الغرب في موقع الساحل الحالي المجاور لأبوقير. في هذا الاتجاه، وعلى خط العرض نفسه لهرقليون، كانت توجد أطلال مبان ضخمة، تعود إلى عصور تاريخية مختلفة، وهي تقع ضمن موقع شرق كانوپي.
إن المكتشفات الأثرية التي عثر عليها في منطقة «الفرع الكانوپي» للنيل كثيرة، كما أنها عظيمة الغنى من حيث المعلومات التي تدلنا عليها. هذه المكتشفات جميعها ليست نتيجة للبيانات الأثرية فقط، وإنما كذلك للبيانات الجيولوجية الكثيرة التي تم الحصول عليها بفضل استخدام أجهزة الالتقاط الجيوفيزيائية الكبيرة.