من بين شعراء مصر في عصر الدولة الأيوبية شاعر اجتمع له من رقة الحسّ ورقة اللغة ورقة التصوير ما جعل منه مثالاً للرقة وعنوانًا عليها بين غيره من شعراء عصره، وغيره من العصور. واللغة التي يستعملها البهاء زهير تستحق الالتفات والتأمل لكونها لغة هي لغة الناس الفعلية، لا تجافيهم ولا تتعالى عليهم، ولا تجابههم بغلظتها وصعوبتها، فقارئ شعره يحسّ أنه يقرأ المألوف والمعتاد من أساليب التعبير، تنهمر كالماء السلسال في غير عنت أو مشقة، وتحمل من خطرات نفس الشاعر ونفحات وجدانه ما يدلُّ على بساطته الأنيقة أو أناقته البسيطة، في غير غُلوٍّ أو إسراف، ووصوله ونفاذه إلى المعنى من أيسر طريق وأسلس تناول، حتى وهو يمتح من مخزون خبراته وتجاربه ومعرفته بالناس والحياة، يغترف منها ببساطة متناهية، ويعيد صياغتها ببراعة لا يتقنها غير المتمرس القدير. فنحن مع قصائده نطالع ونلمس ونتحسس تجليات إبداعه الشعري وفنه فيه، لكنّا لا نعرف شيئًا عن أسرار هذه الصياغة ولا نكاد نراها أو نردُّها إلى أصولها ومكوّناتها، هي السهولة الممتنعة، تلك التي يظن الجهلاء أنهم يحسنون مثلها، ولكن هيهات. البهاء زهير إذن شاعر البساطة، وشاعر الروح المصرية الخفيفة الظل، وشاعر اللغة الجميلة السهلة الطيّعة التي انتزعها من ألسنة الناس وسكب عليها ماء شاعريته وكيمياء فنه.
يقول البهاء زهير:
أنا في الحب صاحب المعجزاتِ
جئتُ للعاشقين بالآياتِ
كان أهل الغرام قبْليَ أُمّيّـ
ـين، حتى تلقّنوا كلماتي
فأنا اليوم صاحب الوقت حقا
والمحبون شيعتي ورُعاتي
ضُربتْ فيهمو طبولي، وصارت
خافقاتٍ عليهمو راياتي
جَلبَ السّامعين سحْرُ كلامي
وسَرتْ في عقولهم نفثاتي
أين أهل الغرام أتلو عليهم
باقياتٍ من الهوى صالحاتِ
خُتمَ الحبُّ من حديثي بِمسْكٍ
رُبّ خيرٍ يجيءُ بالخاتماتِ
فعلى العاشقين مني سلامٌ
جاء مْثلَ السلامِ في الصلواتِ
مذهبي في الغرامِ مذهبُ حقٍّ
ولقد قُمْتُ فيه بالبيّناتِ
فَلكَمْ فيَّ من مكارم خُلْقٍٍ
ولكمْ فيَّ من حميد صِفاتِ
لستُ أرضى سوى الوفاء لذي الو
دِّ، ولو كان في وفائي وفاتي
طاهر اللفظ والشمائلِ والأخْـ
ـلاق عفّ الضمير واللحظاتِ
ومع الصمت والوقار فإني
دمثُ الخُلْقِ طيِّبُ الخلواتِ
يعشق الغُصْنَ والرشاقة قلبي
ويُحبُّ الغزالَ ذا اللّفتاتِ
وحبيبي هو الذي لا أُسمِّيـ
ـه، على ما استقرَّ من عاداتي
ويقولون: عاشق، وهو وصفٌ
من صفاتي المُقوّماتِ لذاتي
إنَّ في نيّتي وقد علم اللـ
ـه بها وهو عالم النيّاتِ
يا حبيبي وأنت أيُّ حبيبٍ
لا قضى الله بَيْننا بِشتاتِ
إنّ يومًا تراك عينيَ فيه
لهو يومٌ مُضاعفُ البركاتِ
أنت روحي وقد تملّكْتَ رُوحي
وحياتي وقد سَلبْتَ حياتي
مِتُّ شوقًا، فأَحْيِني بوصالٍ
أُخبرِ الناس كيف طعْمُ المَماتِ
وكما قد علمْتَ كلُّ سرورٍ
ليس يبقى، فَواتِ قبل الفَواتِ
وهي الرقة نفسها والبساطة الجميلة الأنيقة، في لغتها المُتخيّرة، ومعجمها البعيد عن الابتذال أو الإسفاف، - بالرغم من أنه منتزع من لغة الناس ولغة الحياة، التي تحيا على ألسنة الناس وأقلامهم، في عصره وبعد زمانه نطالعهما في قصيدة جميلة الإيقاع، بديعة الفواصل، يقول فيها:
هو خطى قد عرفتُه
لم يحلْ عمَّا عهْدتُه
فإذا قصّر من أهواهُ
في الودّ عَذَرْتُه
غير أَنّي ليّ في الحبّ
طريقٌ قد سلكْتُه
لو أرادَ البُعْدَ عني
نورُ عيني ما تبِعْتُهْ
إنّ قلبي وهو قلبي
لو تجنىَّ ما صَحبْتهُ
كلُّ شيءٍ من حبيبي
ما خلا الغْدرَ احتملْتُه
أنا في الحبّ غيورٌ
ذاكَ خُلْقي لا عدِمْتُه
أبُصرُ الموتَ إذا أبصر
غيري مَنْ عشقْتُه
لستُ سمحًا بودادي
كلُّ من نادى أَجْبتُه
طالما تهتُ على خاطب
وُدِّي وردْدتُـــه
قد شكرتُ الله فيما
كان لي منكم طَلبْتُه
حين خلّصْتُ فؤادي
من يديْكم وملْكتُه
كان قلبي مُستريحًا
من هواكم ما أَرحْتُه
فلو أنّ القُرْبَ يُحْيي
منكمو لي ما طلبْتُه
والبهاء زهير هو صاحب هذه الكلمات الجميلة التي ذاعت شهرتها بعد أن لُحّنتْ وغُنّيت، لرقّتها وسلاستها وتدفّقها شعورًا وإحساسًا ولغةً:
يُعاهدني لا خانني ثم ينكُثُ
وأحلفُ لا كلَّمْتُه ثم أحنثُ
وذلك دأْبي لا يزال ودأْبُه
فيا معشر الناس اسمعوا وتحدثوا
أقولُ له: صِلْني، يقول: نَعمْ، غدًا
ويكسرُ جَفْنًا هازئًا بي ويعبثُ
وما ضَرَّ بعْضَ الناس لو كان زارنا
وكنا خَلوْنا ساعةً نتحدثُ
أمولايَ إني في هواكَ مُعذّبٌ
وحتّامَ أبقى في العذاب وأمكثُ
فخذْ مرةً رُوحي تُرحْني، ولم أكنْ
أموتُ مرارًا في النهارِ وأُبعثُ
وإني لهذا الضَّيْم منك لحاملٌ
ومنتظرٌ لُطفًا من الله يحدثُ
أُعيذكَ من هذا الجفاء الذي بدا
خلائقُكَ الحسنى أرقُّ وأَدمثُ
تردّد ظنُّ الناس فينا وأكثروا
أقاويل منها ما يطيبُ ويخبثُ
وقد كرُمت في الحبُّ مني شمائلي
ويسأل عني من أرادَ ويبحثُ
وأخيرًا يقول شاعر رقة اللغة وخفة الظلّ وسماحة الروح والعشق على الطريقة المصرية في زمانه، عصر الدولة الأيوبية:
أأحبابَنا، بالله كيف تغيرت
خلائق غرٌّ منكمو وغرائزُ
لقد ساءني العتْبُ الذي جاء منكمو
وإنّيَ عنه لو علمتم لعاجِزُ
لكم عُذْرُكم، أنتم سمعتمْ وقُلتمو
ومُحتملٌ ما قد سمعتُمْ وجائزُ
وإن كان لي ذنب كما قد زعمتمو
فما الناسُ إلا المُحسنُ المتجاوزُ
نعمْ ليَ ذنبٌ، جئتكم منه تائبًا
كما تاب من فعل الخطيئة ماعزُ
على أننّي لم أرْضَ يومًا جنايةً
وهيهات لي والله عن ذاك حاجزُ
وبين سؤالي والسلوِّ مهالكٌ
وبين جفوني والرقاد مفاوزُ
وإن قلتْ: واشوقًا إلى البان والحمى
فإنيَ عنكم بالكناية رامزُ
دعونيَ والواشي، فإنيَ حاضرٌ
وصوتي مرفوعٌ ووجهيَ بارزُ
سيذكر ما يجرى لنا من مواقفٍ
مشايخُ تبقى بعْدَنا وعجائزُ
بعيشكَ لا تسمع مقالة حاسدٍ
يُجاهرُ فيما بيْننَا ويبارزُ
فما شاق طرْفي غير وجهك شائقٌ
ولا حاز قلبي غير قلبك حائزُ
سأكتمُ هذا الحبَّ خِيفةَ شامتٍ
وأُوهمُ أني بالرضا منك فائزُ
فلي فيك حسّاد وبيني وبينهم
وقائع ليست تنقضي وهزاهزُ
وإني لهم في حرْبهم لمخادعٌ
أُسالمهُم طوْرًا وطورًا أناجزُ
getTitleAuthor()
فاروق شوشة
مجلة العربى/يناير 2011