--------------------------------------------------------------------------------
كتاب وفنانون يغزون جزيرة القراصنة
الكاتب:بندر عبد الحميد
المصدر:مجلة العربى الكويتية
----------------------------------------------------------------------------------
* هناك جزيرة صغيرة قد لا ترى اسمها على الخريطة، قرب شواطئ فلوريدا، هي آخر جزيرة تطل على خليج المكسيك، وتدعى «كي ويست» وتبعد عن كوبا «تسعين» كيلو متراً، وتتمتع بجاذبية خاصة، من هذه الجزيرة بدأت أسطورة القراصنة كما تصورها أعمال الكتّاب والفنانين.
كانت «كي ويست» المرفأ المتقدم المفضل لدى القراصنة على مدى عدة قرون، يرصدون منها السفن الإمبراطورية العابرة، ذهاباً وإياباً، بين أوربا وأمريكا اللاتينية، حيث كانت المستعمرات الإسبانية والبرتغالية السابقة، ولكن الحرب على القراصنة اشتدت في عشرينيات القرن التاسع عشر، فهجرها القراصنة وظلت منسية حتى غزاها الكتّاب والفنانون في عشرينيات القرن العشرين.
كان أول من اكتشفها الشاعر الأمريكي والاس ستيفنز عام 1922، وكتب عنها قصيدة شهيرة بعنوان «فكرة الإيقاع في كي ويست» يرصد فيها التناغم الخفي بين الإنسان والجزيرة والبحر: «لم يكن البحر قناعاً، ولم تكن هي أيضاً.. البحر والأغنية لم يكونا صوتين متداخلين... لكن هي التي نسمعها تغني، وليس البحر».
ومنذ ذلك الحين تقاطر إلى هذه الجزيرة الساحرة أكثر من ستين كاتباً وكاتبة، من الأكثر شهرة، بين الروائيين والشعراء والمسرحيين وكتاب السيناريو، ومنهم روبرت فروست وجون دوس باسوس وهيمنجواي وتنسي ويليامز وإليزابيث بيشوب، ومع كبار الكتاب يأتي المخرجون والممثلون أو عشاقهم ومرافقوهم. وكان الحضور المتواصل للكتاب والفنانين، بكثافة غير مألوفة في هذه الجزيرة حافزاً قوياً لانتشار نوع من الاهتمامات والتقاليد الثقافية بين السكان الأصليين، حيث برز بينهم أكثر من عشرة كتاب وشعراء يمثلون «موجة» جديدة في الأدب الأمريكي.
القراصنة كانوا هنا
كان بين القراصنة نساء غير عاديات وأشهرهن «آن بوني» التي كانت تتفوق على من حولها من الرجال في المهارة بإطلاق النار وإصابة الهدف وفي المبارزة بالسيف، وهناك أيضاً «ماري ريد» التي كانت تقود الغزوات الخطرة وتنصب الكمائن المحكمة للسفن العابرة، ثم تهجم في جرأة مباغتة وتربك الخصوم بصراخها وطلاقة لسانها، وحينما وقعت في الأسر، وقدّمت إلى المحاكمة، ضحكت أمام القضاة وقالت لهم: «من حسن الحظ أن المشانق منصوبة ولولاها لتحوّل كل الجبناء إلى قراصنة ومات كل الشجعان من الجوع».
أما أشهر القراصنة من الرجال فكان يدعى الكابتن تيش، الذي يحمل لقب «اللحية السوداء»، وهو يرتدي حزاماً محملاً بالمسدسات، وكان من عادته في المواجهات الصعبة أن يستخدم اثنين من المسدسات في وقت واحد، كما اعتاد قبل كل هجوم أن يذرّ مسحوقاً أبيض على لحيته وجدائله، ثم يهجم وهو يطلق النار ويصرخ: أنا ابن الشيطان.
وكان يعزي رجاله بعد الهجمات الخائبة ويقول: «أنا والشيطان نعرف أين تختبئ كنوزنا، والذي يعيش زمناً أطول هو الذي يستولي عليها كلها»، ولكن كثيراً من الكنوز التي حملتها السفن لم تصل إلى هدفها ولم يأخذها الكابتن تيش ولا الشيطان، لأنها غرقت في أعماق المحيط بعد معارك دامية.
وتعيد إلينا الروايات والأفلام وكتب التاريخ حكايات غريبة عن القراصنة، روايات وأفلاما جيدة وأخرى رديئة، وحكايات للأطفال، تمتد في جذورها إلى بدايات الفتوحات الإسبانية والأوربية في الأمريكتين، ويمكن أن نتذكر بعضاً من عناوينها: القبطان الدموي - البجعة السوداء -اللحية السوداء - آن ابنة الأنديز - ملكة القراصنة - صقر البحر - الصقر الذهبي - عاصفة على جامايكا - قرصان طرابلس -شيطان سفينة القراصنة - قراصنة النهر الدموي - راكبو البحار السبعة - شبح اللحية السوداء - القراصنة الشرفاء - اللحية الصفراء.
الكتّاب يغزون «كي ويست»
قام جون دوس باسوس بدعوة هيمنجواي إلى «كي ويست» حينما كتب إليه رسالة في نهاية العشرينيات يقول فيها: إن «كي ويست» تعطيك انطباعاً بأنك تعيش في الأحلام «حيث يستطيع العجوز «هيم..» أن يدفئ عظامه».
ووصل هيمنجواي لأول مرة إلى «كي ويست» عام 1928، على ظهر مركب مع زوجته الثانية بولين، قادماً من كوبا، وكان ينوي الإقامة في كي ويست لمدة أسبوع، ولكن إعجابه بهذه الجزيرة دفعه الى البقاء لمدة ستة أشهر متواصلة، قبل إقامته الطويلة فيها.
في عام 1931 اشترى همنجواي «فيلا» قديمة مبنية بالحجر، وبعد الترميمات تحولت إلى استراحة من أكثر الأماكن أناقة في هذه الجزيرة، وأقام فيها حتى عام 1939، حيث انفصل عن زوجته بولين وعاد إلى كوبا ليعيش مع الصحفية والكاتبة مارتا جلهورن التي لم تنتظر طويلاً حتى تصبح زوجته الثالثة.
إن السنوات العشر التي قضاها هيمنجواي في جزيرة كي ويست هي الأكثر سعادة في حياته، وهي السنوات التي شهدت قمة عطائه الأدبي وشهرته وانتشار أعماله وبروزه الواضح بين أبناء جيله، حيث كتب في هذه المرحلة أهم أعماله: «وداعاً للسلاح» و «موت في الظهيرة» و«أن تملك أو لا تملك» و «روابي إفريقيا الخضراء» و«لمن تقرع الأجراس».
وشهدت هذه المرحلة من حياته انسجاماً خاصاً بينه وبين هواياته الأثيرة، فاعتاد أن يستيقظ مبكراً كل يوم، ويبدأ بالكتابة حتى الساعة الحادية عشرة، ثم ينصرف إلى زورقه الآلي «بيلار» يجوب به أطراف خليج المكسيك، ولا يعود من رحلته راضياً إلا إذا اصطاد واحدة أو أكثر من سمك «الراموح» الشرس، الذي قال عنه «إنه سريع كالضوء، قوي كالأيل، وله أسنان فولاذية»، وكان هيمنجواي يكره القرش المفترس الذي يجوب المياه حول جزيرة كي ويست، وكان يطلق النار حينما يصادفه، من بندقية الصيد التي يحتفظ بها على ظهر الزورق، وفي إحدى المرات اصطاد سمكة «تونا» عملاقة، تزن نحو مائتين وثمانين كيلوجراماً، ولم يستطع السيطرة عليها إلا بعد سبع ساعات من التهامها للطعم، حيث كانت تسحب زورقه وراءها بعناد، ومن هنا استوحى روايته الشهيرة «الشبح والبحر» التي اصطاد بها جائزة نوبل للأدب عام 1954.
وحينما عاد إلى الشاطئ بتلك السمكة كان متعباً وثملاً، ولم يتمكن من نقل السمكة إلا برافعة آلية، حيث كانت تتدلى من رأس الرافعة وهي تترنح مثل كيس الملاكمة.
ولايزال هيمنجواي حاضراً في جزيرة «كي ويست» من خلال صوره المرسومة على قمصان «تي شيرت» بلحيته المعروفة، وقد تجد صورته ملصقة على الجدران في شارع «دوفال» الرئيسي في الجزيرة.
والبيت الذي سكنه، وعاش فيه، تحول إلى أهم متحف في الجزيرة، بعد انتحاره عام 1961، وتضم كل غرفة فيه مجموعة من الأدوات التذكارية التي جمعها في رحلاته، منها أدوات الصيد والبنادق، وميدالية الصليب العسكري التي منحت له في إيطاليا في أواخر الحرب العالمية الأولى عام 1918، حيث خدم كمتطوع لمعالجة الجرحى في الجبهة الإيطالية وساهم في إنقاذ مائتين وسبعة وثلاثين جريحاً.
وبقيت الغرفة التي اعتاد أن يكتب فيها على حالها، وهي غرفة كبيرة، تتوسطها طاولة مستديرة تحمل آلة كاتبة من نوع رويال، إلى جانب كرسيه المفضل، بأرضية ومسند خلفي من القش، وهو يشبه الكراسي التي تستخدمها النساء اللواتي يعملن في لف السيجار الكوبي على أفخاذهن.
وفي الغرفة نافذتان تطلان على أشجار الموز التي تحيط بحوض السباحة الأنيق، وهو الحوض الذي أنشأته زوجته الثانية بولين في عام 1936 حينما سافر هيمنجواي إلى إسبانيا كمراسل صحفي لمتابعة أحداث الحرب الأهلية الإسبانية التي بدأت في ذلك العام.
أرادت بولين أن يكون حوض السباحة مفاجأة سارة لهيمنجواي حينما يعود، وهو أول حوض سباحة يقام في جزيرة كي ويست، وكان مفاجأة فعلية، ولكنه كان سبباً في نزاع استمر بين الزوجين حتى الطلاق، ويشتهر متحف هيمنجواي في «كي ويست» - كما هو الحال في متحفه في كوبا - بكثرة القطط.
في شهر يوليو من كل عام يلتقي في متحف هيمنجواي وفي مقاصف الجزيرة أشباه هيمنجواي بعدد متزايد، يحتفلون بذكراه في مسابقة للشرب، تنقل صورها وسائل الإعلام الملونة، وفي كل مرة تظهر وجوه جديدة من الأكثر شبهاً بهيمنجواي.
أما تنسي ويليامز فإنه ظل يتردد على «كي ويست» ثلاثين عاماً، وهناك كتب عدداً من أعماله، وتحول منزله إلى متحف أيضاً، وأطلق اسمه على معهد الاستكشاف البحري في الجزيرة، و كتب ويليامز في «كي ويست» مسرحيته الشهيرة «وشم الوردة» التي تحولت إلى فيلم عام 1955 من بطولة مارلون براندو وآنا مانياني التي حصلت على جائزة أوسكار عن دورها في هذا الفيلم.
___