أوقفوا استغباءنا رجاء
للكاتب الكبير فهمى هويدى
لا يقنعنا كلام أى مسئول طال بقاؤه فى منصبه حين يقول إنه نبَّه إلى الفساد فى مصر فى حينه، لكن أحدا لم ينصت له. ذلك أنه ليس لدينا ما يدل على أنه نبه فعلا ــ ولكن الثابت أنه ظل جزءا من «العصابة» الحاكمة. واستمراره فى منصبه لعدد من السنوات رغم علمه بالفساد قرينه على أحد أمرين، إما أنه كان راضيا به وسكت عنه استجلابا لرضا السلطان، وهو ما لا يشرفه بأى حال، أو أنه كان شريكا فيه ومستفيدا منه، وهو ما يثبت بحقه الإدانة.
أفهم أن يقول المسئول إنه لم يكن يعلم أو أنه شم رائحة الفساد لكنه ظل بعيدا عن دائرته، الأمر الذى يخرجه من دائرة الاتهام. أما تلك الادعاءات التى نسمعها هذه الأيام فلا يمكن أن تفسر إلا بحسبانها استعباطا واستهبالا واستغباء لنا.
الحوار الذى أجرته صحيفة «المصرى اليوم» مع الدكتور فتحى سرور فى الأسبوع الماضى ليس النموذج الوحيد لهذه الحالة، ذلك أننى أزعم أن حالة رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات، المستشار جودت الملط أفدح وأسوأ. ذلك أن الجهاز الذى يديره له وظيفة أساسية هى أن يظل مفتوح الأعين على كل صور الفساد الموجودة فى البلد. وحين نرى الفساد بالحجم المهول الذى تكشف هذه الأيام، فإن المرء لا يستطيع أن يتصور أنه كان فى مصر طوال هذه المدة جهاز يحاسب أو يراقب.
ما دفعنى إلى هذا الكلام وفتح ملف الجهاز أننى قرأت فى الأسابيع الماضية تصريحات للمستشار الملط تحدث فيها عن أنه كان يبعث بتقارير وملاحظات الجهاز إلى الجهات المسئولة، لكن أحدا لم يأخذ بها. وأمس قرأت على الصفحة الأولى من صحيفة «الدستور» أن الجهاز حذر قبل 12 عاما من فساد عقد بيع مائة ألف فدان فى توشكى لشركة «المملكة» التى يمثلها الأمير الوليد بن طلال، وأرسل بيانات بمخالفات العقد وتجاوزاته إلى رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ولكن أحدا لم يحقق فى الأمر.
فى الوقت ذاته، ثمة مذكرة قدمها ممثلون عن العاملين بالجهاز إلى رئاسة المجلس العسكرى تحدثت عن تعليمات أصدرها المستشار الملط بمنع فحص عقود تصرف هيئة المجتمعات العمرانية فى الأراضى الجديدة، التى وزعت ملايين الأمتار المربعة منها على أكابر النظام السابق. وكذلك عدم فحص حسابات الصناديق الخاصة لبعض الوزارات وعلى رأسها وزارة الداخلية التى كانت تحصل نحو مليارى جنيه سنويا. كما شملت التعليمات عدم تناول مخالفات كبار الشخصيات أو حسابات بعض الجهات التى توصف بأنها «سيادية».
فى المذكرة وقائع مثيرة أخرى تحتاج إلى تحقيق، بعضها يتعلق بتقاضى بعض الوزراء أموالا بغير وجه حق والبعض الآخر يتعلق بوقائع احتكار أحمد عز للحديد أو يتعلق بإجراءات الخصخصة التى ضيعت على الدولة مليارات الجنيهات.
معلوماتى أن التقارير التى كان يرسلها الجهاز إلى الجهات المعنية كانت «تصفى» حتى لا تتجاوز الخطوط الحمراء، أو تمس الأكابر. ومنها ما كان يحجب (كما كان يفعل الدكتور سرور فى استجوابات مجلس الشعب) ــ وبسبب المجاملات التى روعى فيها خاطر أركان النظام السابق ورئاسته، تم نقل تبعية الجهاز من مجلس الشعب إلى رئاسة الجمهورية. ولهذا السبب ذاته كوفئ المستشار الملط بالتمديد له نحو 12 سنة. من ثم فلم يكن غريبا أن يقول صاحبنا فى التقرير الذى قدمه إلى مجلس الشعب عن السنة المالية 2008 ما نصه: أن السيد رئيس الجمهورية يتابع مع الوزراء والمحافظين وجميع المسئولين بالدولة. ما يتعلق بحياة الناس وتوفير الحياة الكريمة لأبناء مصر، والتركيز على مشكلات المواطنين. فالشغل الشاغل للرئيس هو حياة المواطن البسيط، والرئيس يصرح ويوجه ويتابع مع المسئولين بالدولة كل ما يتعلق بحياة البسطاء والفقراء ومحددوى الدخل وما يستحقونه من حياة كريمة... إلخ.
كان يمكن السكوت على ذلك الكلام لو أن الرجل التزم الصمت ولم يقل إنه قام بما عليه فى مواجهة فساد النظام السابق، لكن أما وقد تكلم فربما كان مناسبا أن نذكره بما تناساه أو نسيه!
إن من حقنا أن نسأله هو وأمثاله: إذا كنتم قد نبهتم حقا إلى الفساد وقوبلت رسائلكم بالتجاهل، فلماذا لم يغضب أحد منكم مرة لكرامته أو كرامة البلد الذى كان ينهب تحت أعينكم؟
جريدة الشروق