ما الذي يحدث في مصر؟
بقلم: شريف الشوباشي
مع أني من المنادين بضرورة محاكمة الرئيس السابق ومحاسبته, إلا أن مصير مبارك لا يهمني كثيرا.. ما يهمني هو مصير مصر ومستقبلها. وأقول بصراحة إن ما يحدث الآن يبعث في نفسي القلق علي المدي القصير,
وإن كانت لدي ثقة كبيرة أن مصر في المدي المتوسط سوف تسير في الطريق الصحيح وتنجح في بناء دولة عصرية ديمقراطية متطورة.
وجوهر المشكلة أن مبارك أورثنا تركة مثقلة بالغيوم والهموم والأحمال التي تنوء بها أعتي الجبال. وأخطر ما في هذه التركة هو روح الغلو والتطرف التي لم تكن موجودة في الشعب المصري الذي عرف دائما بالتسامح والوسطية وكراهية العنف وسفك الدماء.
أما اليوم فنجد من يطالبنا بقطع الأيادي والرقاب والرجم والجلد. نجد من ينادي بتدمير الأضرحة التي يرقد فيها الآباء الصالحون بسلام. نجد من ينصبون أنفسهم قضاة وجلادين فيقطعون أذن أحد الرجال عائدين بنا إلي عصر قانون الغاب. نجد البلطجية الذين يروعون الناس ويقطعون الطرق ويقومون بعمليات السلب والخطف والاعتداء علي الأبرياء. نجد معارك بالأيدي تشتعل في داخل الجوامع التي هي بيوت الله المحرمة ونسمع عن شيخ عمره81 عاما يضرب بلا رحمة لمجرد أنه يمثل وزارة الأوقاف. نجد جمهور الكرة الذي من المفترض أن يذهب إلي الملاعب للاستمتاع والتسلية ينزل إلي أرض الملعب ويرتكب أفعالا مشينة لا علاقة لها بالرياضة ولا بأخلاقيات المصريين. نجد من يمنعون حركة القطارات للاعتراض علي تعيين أحد المحافظين.
ثم كيف ننسي شهداء الثورة الذين تجاوز عددهم800 من خيرة أبناء مصر. فالذين أطلقوا الرصاص الحي علي هؤلاء المتظاهرين العزل لابد أن صدورهم كانت مشحونة بكم مخيف من الغل والعنف ناتج عن ظروف القمع والقهر النفسي التي تعرض لها الشعب المصري بكل فئاته طوال العقود الماضية.
وفي يوم الجمعة الماضي كشفت لارا لوجان مراسلة شبكة سي بي إس الأمريكية للمرة الأولي عما حدث لها في ميدان التحرير يوم11 فبراير, وهي تغطي لحظات تنحي مبارك وروت أنها تعرضت لاعتداء جسدي, وقالت إن المعتدين كانوا يبدون في حالة من النشوة والسعادة وهم يرونها تبكي وتتوسل إليهم أن يرحموها.
وقد اقتصرت في الأمثلة الماضية علي الوقائع والأحداث المادية التي تدل علي تلك النزعة الجديدة علي الشعب المصري. أما عن التطرف الفكري والكلامي فحدث عنه ولا حرج. فهناك من يريد تقسيم المصريين إلي فئات متعارضة, وإضرام نار الفتنة والفرقة بين أبناء الشعب. هناك من ينشر قيم الإقصاء والكراهية ونبذ التآلف والتراحم. ولا يفوت يوم لا نشاهد ونسمع فيه عمن يعتلون المنابر والمنصات ويطلقون الخطب النارية الرامية إلي تهييج المشاعر, وتأليب الناس, وتشجيعهم علي ارتكاب أبشع الجرائم, وكل ذلك باسم الدين والمباديء العليا والدين بريء منهم.
ما هذا الذي يحدث في مصر؟
ما يحدث هو نتاج طبيعي لما عشناه طوال العقود الماضية. أوهمتنا أبواق الدعاية طوال أربعين عاما أن العرب يكرهون مصر ويحقدون عليها, ولا يريدون لها الخير. وفوجئنا بعد الثورة بحب متدفق وخوف علي مصير مصر وحرص شديد من جانب كل أبناء الشعوب العربية علي متابعة ما يجري بكل تفاصيله واكتشفنا أن مصر بالنسبة لهم ما زالت قدوة تحتذي برغم كل مشكلاتها.
أوهمونا أن بدو سيناء خونة يتعاونون مع إسرائيل ضد أمن مصر, وأنهم طابور خامس يشكل تهديدا علي الأمن القومي. واتضح أنهم مصريون عانوا من الاحتلال الإسرائيلي وتعاملوا معه مكرهين وهم لا يقلون حرصا علي أمن مصر ورفاهيتها عن أي فئة أخري.أدخلوا في روعنا أن النوبيين لديهم أجندة خاصة, وأنهم راغبون في الاستقلال عن مصر أو الانضمام إلي السودان, وأنهم أغراب في بلادنا. واتضح أنهم ينعمون بدرجة عالية من الوطنية والتمسك بهويتهم المصرية, وإن كانت لهم حقوق ومطالب مشروعة كانت السلطة السابقة تحجم عن تلبيتها.
أقنعونا بأن الأقباط يضمرون الحقد والكراهية للمسلمين, وأن كنائسهم زاخرة بالأسلحة والذخيرة استعدادا للقيام بانقلاب علي الحكم والاستيلاء عليه, وما زال الكثيرون تحت تأثير هذا الهراء الذي لا يقبله عاقل. واكتشفنا خلال الثورة التآلف والمحبة بين المسلمين والأقباط, وأنهم أبناء وطن واحد.
كل هذه الأوهام والمزاعم زرعت بذور الحقد والضغينة والانقسام بين أبناء الشعب المصري. وكانت النتيجة الطبيعية ذلك العنف الذي نراه الآن ونتساءل عن أسبابه ودوافعه.
أصبح كل مصري يشك في الآخر وفي نواياه, ويحمل في داخله طاقات من البغض لا تنتظر إلا الانفجار. وتلاعبت مباحث أمن الدولة بمصائر الناس وجندت الكثيرين لإثارة الفرقة والبلبلة من أجل تنفيذ أغراض الحاكم, ومآرب لا علاقة لها بمصلحة الشعب.
وأنا أتهم وسائل الإعلام بأنها لعبت الدور الرئيسي في انتشار هذا المناخ الفاسد, وفتحت الباب علي مصراعيه لفئة من المنتفعين والدجالين والمشعوذين الذين عملوا علي تخريب عقل الأمة طوال الأربعين سنة الماضية.. كما منعت العقول المستنيرة ودعاة العقل والحكمة من التعبير عن أنفسهم, وساهمت في إخراج أسوأ ما في النفس البشرية من الكمائن والغرائز دون مراعاة لأمن الوطن والسلام الاجتماعي.
وتقع علي عاتق الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب في المرحلة المقبلة مسئولية ضخمة في إعادة الصفاء إلي المجتمع المصري. علي وسائل الإعلام أن تكفر عن خطيئتها الكبري بتلويث النفوس وتغييب العقول علي مدي أربعين عاما.
دور الإعلام في المرحلة المقبلة هو التمهيد النفسي والعقلاني اللازم لتمكين المجتمع من أن يتصالح مع نفسه, ويطرد من القلوب كل أنواع العقد, ومشاعر الحقد والكراهية الموروثة من تركة النظام السابق ليحل مكانها الوئام والتفاهم, وتوافق الآراء والوسطية والاعتدال وجميع القيم المتأصلة في شعب مصر.
لا خلاف علي أن تحطيم الماضي ورموزه هدف مهم.. لكن بناء المستقبل أهم كثيرا.
جريدة الاهرام