عجوز ......على شاطئ البحر
ما أجملك! .......ما أوسعك!......ما أصفاك!!
أمشي على رمال بيضاء كأنها أرض غير الأرض...باردة جدا كالثلج ...تغوص قدماي فيها كلما مشيت، فإذا خرجت منها زادت برودة فتعود إليها كأنما تفضل برودة الثلج على برودة الهواء. وهاهي ذي عصاي أتوكأ عليها تغوص هي الأخرى فيها.
تركنا آثارنا على الرمال فما لبث أن جاء الموج فيمحوها ...يمحوها... وما ترك منها شيئا. أتت الموجة الأولى فمحت بعضها واستقر بعض مائها فيها، ثم أتت الثانية فأخذت الآثار كلها وأخذت الماء معها ورجعت إلى البحر..
البحر...........
ما أجملك! .......ما أوسعك!......ما أصفاك!!
أتذكر أيها البحر كم مشيت على رمالك؟ كم سرت في جسدي القشعريرة من برودة هوائك؟ كم داعب شعري عليلُك الصافي ؟ كم تنهد قلبي وهو ينظر إلى حسن خلقك ؟ .....ومع هذا ...
لم أقربك !....لم أنزلك!....لم أسبح فيك!
لطالما طاقت نفسي إلى قربك وأخذ البعض من ماءك بين يدي كي أغسل حر الصيف عن وجهي ، ولكن كلما اقتربت منك زاد خوفي ... أن أدخل إليك ولا أعود ...أن تأخذني إليك وتأبى علي إلا السباحة فيك .. تأبى عليَ الخروج!
أتذكر عندما مررت من هنا منذ خمسين عاما؟ ... كنت أرتدي ذاك الفستان الأزرق، كنت حافية القدمين وكانتا تغوصان في رمالك ... كان شعري يسافر مع هواءك في كل إتجاه ..كان ثغري يبتسم إليك ويقول "ما أجملك! .......ما أوسعك!......ما أصفاك!! "
أتدري كم مشيت على رمالك؟... أنا لا أذكر ..لعل موجك يذكر , فقد كان يمحو آثار أقدامي كلما مشيت كأنه يعدها علي ..لا يريد لها بقاءا ..لا يريد لها ذكرا!
قد كنت سعيدة هذا اليوم ..ألم أخبرك لماذا؟!....لعلي فعلت، لكن لا أخالك كنت تسمعني لعلو صوتك على صوتي..وإيباء هواءك إلا أن ينشر نبراتي في كل مكان ....
شتتها....بعثرها.....حتى أني لم أسمعها.......فكيف بغيري ؟! ...فكيف بك؟!
فأردت أن أسمعك إياها جيدا ..فاقتربت منك...أجل! ...اقتربت منك...فانا أريد أن أخبرك ...اقتربت منك
لامست أطراف أصابعي ماءك البارد ...غاصت قدماي أكثر في رمالك ...هبَ هواؤك في وجهي ... هبت امواجك في وجهي ..وتكاثرت عليَ ...تحركت رمالك ممن تحتي ....وغاصت قدماي ...غاصت أكثر حتى اصطدم كاحلي بصخرة تعيش في باطن رمالك ...لم أرها ...لم أتوقعها!
انكفئت على وجهي ...وسقطت في ماءك ...تبلل فستاني بماءك ...وهالني منظر على ماءك...بقعة دماء!! ...دماء على ماءك !! ...إنها قدمي .. جرحتني ؟!... لم ؟! ...قد أردت أن أخبرك .. فلم جرحتني؟!!!!
أخذت من ماءك علَه يداوي جرحي، فزادني ألما وتوجيعا .. خفت التقرح فافرغت ما بيدي من ماءك!
ما أوسعك!.....ما أقواك !...... ما أشدك!
غاصت عصاي أكثر وأكثر في الرمال ، وازدادت قبضتي عليها خشية فقد الإتزان ... أو .. فقدها!
أرسلت بصري إليك علَني أجد لك آخرا ...فلم يمكنِي بصري
أرسلت سمعي جاهدة أن أفهم ما تقول ....فلم يعي سمعي
أرسلت خاطري وراءك علَه يفهمني كنهك....فلم يفدني خاطري
نظرت إلى السماء فوجدت الشمس حمراء دامية تزداد احمرارا كلما قاربت ملامستك ...أهي جريحة؟ .. اهي تنزف على مائك حتى بدا مدمما؟ ...أم إنك مرآتها أردت أن تريها كم تنزف؟
أغمضت عيناي عنها ، ورجعت إلى سنين قليلة مضت عندما كنت أمشي على رمالك وأنا قابضة على منديلي الأسود ..أجفف به دمعي تارة ، وأجفف به يداي أخرى. تعبت يدي من قبضته ، فأردت أن أحشره في خاتمي....فانفلت مني....
سقط مني على رمالك ...جريت نحوه أمسكه...حمله هواؤك لأعلى ...جعلت أقفز كي أستعيد قبضته .....أسقطه هواؤك على ماءك ...اردت أن اجري كي آخذه ...فتذكرت ماءك ..وتذكرت دمائى علي مائك ...خفتك!
تركت لك منديلي الأسود وقد انصبغت الموجة التي تحمله بالأسود ...اختفى عني منديلي ..
لم أجده .....لم أعثر عليه !.....غاب في غياهب مائك!
م
ا أوسعك!.....ما أقواك !...... ما أشدك!
تعبت قدماي فجلست على صخرة سوداء ، تلمستها ونظرت إليها ..ثم إلى البحر
لم كل شيء يتحرك في البحر وهي ساكنة؟... كيف تعلمت السكون ؟ أهو علمها إياه؟...إما أن تسكني وإما أن تتفتتي بموجي؟ ..أم إنها تعلمت السكون كي تثبت لي أن هناك من يقف أمام البحر ويظل ساكنا؟....أم إنها يئست المحاولة فآثرت السكون كي تعيش وإلا أصبحت فتاتا عما قريب سيبتلعه موجه؟
أجل..وإذا أنا ناظرة إلى الصخرة ،أحسست بقطرات ماء على يدي ، زادت القطرات ...فنظرت إلى السماء وإذا بالسحاب ازداد تراكما واسودادا.... وإذا بها فتحت أبوابها عن وابل غزير... تكاثر السحاب ..وتكاثر المطر.. تكاثرا عليَ!!
ابتلت الصخرة من تحتي ..ابتل فستاني ...وابتلت عصاتي...ابتلت الرمال من تحتي ...غاصت قدمي أينما تحركت.. هب هواؤك في كانما يريد أن يعصف بي...ونظرت عن يميني ..وإذا بالبحر!
هائج يزأر كالأسد يريد أن ينقض علي ! ..هاهو يرسل أمواجه تلاحقني ..رجعت إلى الوراء خطوات...زحفت هي نحوي خطوات...اصطدمت بالصخرة فصدمتني موجة....أحسست بقطراتها المالحة تجري في مجاري وجهي ...دخل ماؤها فمي وعيني.. لم اتكلم ..لم أبصر...رفعت يداي النحيلتان أمامها علَها ترأف بيدين هدهما الزمن..فبللت يدي بالماء والرمال معا
ما أقواك !...... ما أشدك!
أردت الجري من أمامه ..لم استطع ...أين عصاتي؟! .... بلعها ماؤه ..لم يرأف بي!... أعطني إياها .. لن أستطيع الجري ..لن استطيع المشي ..لن أستطيع الوقوف! .. إنها لي ..أعطها لي! .. قد اخذت منديلي فأعطني عصاتي! ..أعطني شيئا...لم أجد شيئا ولم يعطني شيئا!
رجعت خطوات وفرائصي مرتعبة...استندت إلى الصخرة وجلست خلفها ..
لا أريد أن انظر إليك ...إني أخافك!!
زحفت على يدي وركبتي كالرضيع ... غاصت ركبتاي وغاصت يداي.....وغاصت قدماي...يا ربي كيف العمل؟؟
امتزج الماء بالرمل وسقطا على وجهي ..سقطا على شعري ...سقطا على جسمي
لا أستطيع النهوض ...سأظل في الماء والرمل معا
[center]ما أعتاك!....ما أظلمك!....ما أطغاك![/[/size]center]
[justify][center][/size]