«الخوف والحب الإلهى»
بقلم د. على جمعة ١٦/ ٦/ ٢٠١١
العلاقة بين الإنسان وربه تقوم أساساً على الرحمة، التى تقتضى كل صفات الجمال من الحب والرأفة والرفق، وفى العلاقة بين الإنسان وربه نرى القرآن الكريم قد استعمل عدة أفعال للتعبير عن الخوف، منها: خاف وخشى وفَزِع، واستعمل مصدر الرعب، واختلف الاستعمال القرآنى لكل كلمة من هذه الكلمات، بما يحتاج إلى التدبر لنتبين فى النهاية كُنْهَ العلاقة بين الإنسان وربه.
أما الرعب، فاستعماله ورد فى سورة آل عمران فى قوله تعالى: (سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ) (آل عمران: ١٥١)، وكذلك فى سور الأنفال والأحزاب والحشر، وفى سورة الكهف، قوله سبحانه وتعالى: (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) (الكهف: ١٨)، فالرعب شعور سلبى يقتضى الفراغ والبعد، ولذلك لم يستعمل فى العلاقة بين الإنسان وربه، لأن الطريق إلى الله طريق طلب وليس طريق هرب.
وكذلك كلمة فَزِع، قال تعالى: (لاَ يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ) (الأنبياء: ١٠٣)، وقال سبحانه: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) (النمل: ٨٩)، فالفزع معنى سلبى لم يستعمل أيضاً فى العلاقة بين الإنسان وربه فى القرآن الكريم، والإنسان يصيبه الرعب أو الفزع فيريد أن يتخلص من هذا الشعور، قال تعالى: (إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ) (ص: ٢٢).
أما الخشية، فقد استعملت على الوجهين، قال تعالى: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ) (الأحزاب: ٣٧)، وقال تعالى: (فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) (المائدة: ٤٤)، وقال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ) (فاطر: ٢٨)، وقال سبحانه: (إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى) (النازعات: ٢٦)، وقال تعالى: (إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ) (فاطر: ١٨)، وقال تعالى: (كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِىَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) (الزمر: ٢٣)، فوصف القرآن العلاقة بين العبد وربه بالخشية، فالخشية هنا تؤدى إلى الطلب إن كانت من الله، وإلى الفرار والهرب إن كانت من الناس، وهذا تمهيد لمعنى الخوف من مقام ربنا سبحانه وتعالى.
أما فعل خاف فهو أكثر الأفعال استعمالاً فى القرآن الكريم فى هذا المعنى الذى نتكلم فيه، قال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (الرحمن: ٤٦)، وقال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِىَ المَأْوَى) (النازعات: ٤٠-٤١) وقال سبحانه: (قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الأنعام: ١٥)،
فالخوف من الله سبحانه وتعالى مشبع بحبه، وبالتعبير الحديث هو كالأسفنجة التى تمتص الماء أو بعبارة أخرى الحب والخوف وجهان لعملة واحدة، وعلى الناس أن يعلموا وأن يتعلموا الفرق بين الخوف من الله، الذى هو الحب بعينه وبين الرعب والفزع، فالرعب والفزع يأتى من الخوف من الأذية والله سبحانه وتعالى رحمن رحيم بَرٌّ جميل، ولذلك فإن كثيرا من الناس إذا فهموا الخوف بمعنى الفزع من الله فإنهم يملُّون، حتى ترى العلاقة بين الإنسان وربه مع هذا الملل تؤدى إلى الاضطراب ثم يشعر بعدها العبد بشىء من التأثم وتبدأ العلاقة فى التدهور، فى حين أنه لو فهم الخوف بأنه ملىء بالحب، لأدى ذلك إلى علاقة إيجابية تؤدى إلى التقوى وإلى السكينة والطمأنينة والركون إلى رحمة الله تعالى.
إن الخوف الحقيقى المشبع بالحب هو نوع من أنواع الهيبة والرهبة والجلال والقداسة وكلها معان تؤدى إلى مزيد الطلب وإلى دوام السير فى طريق الله، وهذا هو الذى يساعد الإنسان على أن ينهى النفس عن الهوى، ويشعر بلذة فى صدره وقلبه فيزداد من التقوى، ويزول شعوره بالحرمان والمنع، وهذا هو الفرق الكبير بين من جعل العلاقة بينه وبين ربه مبنية على الرعب والفزع، ومن جعلها مبنية على الرحمة والحب.
كثير من الناس رأيناهم قد ساءت علاقتهم مع الله، لاختلاف تلك المفاهيم التى نقلت إليهم، إما من خطاب دينى متشدد لا يمثل إلا مشرب صاحبه العنيف، وإما من تربية بُنيت على العادات والتقاليد بعيداً عن صحيح العلم وبعيداً عن واقع الدين واللغة، وإما من ثقافة سائدة تراكمت عبر العصور، وكل ذلك يدلنا على أهمية اللغة العربية وأنها المِفتاح للتفكير المستقيم، وللإبداع الطموح، وللعبادة الصحيحة، ولتزكية النفس، ولبناء الحضارة، قال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد: ٢٤)، وقال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: ٢).
وقد فهم المسلمون الواعون حقيقة العلاقة بين العبد وربه عن نبيهم- صلى الله عليه وسلم- فجاءت أقوالهم وأفعالهم تؤكد هذا الفهم الصحيح ليتشبع حبهم لله تعالى بمخافتهم منه سبحانه، فينصح عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- أصحابه فيقول: «شاور فى أمرك الّذين يخشون اللّه عزّ وجلّ». ويدعو ابن مسعود- رضى الله عنه، مناجياً ربه فيقول: «خائفا مستجيرا تائبا مستغفرا راغبا راهبا».
كما يدعو ذو النون المصرى فيقول: «اللّهمّ إليك تقصد رغبتى، وإيّاك أسأل حاجتى، ومنك أرجو نجاح طلبتى، وبيدك مفاتيح مسألتى، لا أسأل الخير إلّا منك، ولا أرجوه من غيرك، ولا أيأس من روحك بعد معرفتى بفضلك»، ويفهم الإمام الغزالى هذا المعنى فيقول فى كتابه الإحياء: إنّ الرّجاء والخوف جناحان بهما يطير المقرّبون إلى كلّ مقام محمود، ومطيّتان بهما يقطع من طرق الآخرة كلّ عقبة كئود، ويفهم أيضاً الإمام الشافعى، رحمه الله، هذا المعنى فينشد فى مرض موته قائلاً:
فلمّا قسا قلبى وضاقت مذاهبى.. جعلت الرّجا منّى لعفوك سُلَّمَا.
تعاظم ذنبى فلمّــا قرنته.. بعفوك ربّى كان عفوك أَعْظَمَا.
المصرى اليوم