التصالح مع الذات بقلم: د. علي جمعة
جبلت النفس البشرية علي التطلع للمستقبل, والطموح إلي المراتب الأعلي دائما, وهو ما حدا بالبعض إلي الجموح لتحقيق أهدافه وأحلامه, مستندا إلي مبدأ: الغاية تبرر الوسيلة دون نظر إلي ما تمثله تلك الوسيلة من خير أو شر, وهو أمر شديد الخطورة, يؤثر بالسلب علي الفرد والمجتمع.
والطموح هو السعي باتجاه الوصول إلي أعلي الأهداف, وحتي يصل الإنسان إلي ما تطمح إليه نفسه في ظل الالتزام بالمبادئ التي قررها الإسلام يجب أن يكون لديه الدافع المحاط بالأخلاق التي حددها القرآن الكريم والسنة النبوية, وإلا أصبح الطموح جموحا يوشك أن يودي بصاحبه ويدمره.
ولقد أوضح لنا رسول الله صلي الله عليه وسلم الطموح الصحيح في أسمي صوره, وزرع فينا حب التميز والتفوق والحصول علي أسمي المراتب في كل مكان نعمل فيه, فالتواضع والزهد في الدنيا ـ اللذان دعا إليهما الاسلام ـ لا يعنيان أبدا أن يقبل المسلم الحد الأدني أو ينزوي وراء الآخرين ويكون في ذيلهم, ولذلك حثنا رسول الله صلي الله عليه وسلم علي العمل لبلوغ الغاية والهدف الأسمي لكل مسلم فقال: إذا سألتم الله فسلوه الفردوس الأعلي, فإنه سر الجنة( المعجم الكبير للطبراني31/4), كذلك علمنا أن نعظم من رغباتنا عند الدعاء, فقال صلي الله عليه وسلم: إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت, ولكن ليعزم المسألة وليعظم الرغبة, فإن الله لا يتعاظمه شئ أعطاه( مسلم46/
.
والإسلام ـ كما دعا إلي الطموح لنيل المنزلة العليا في ظل مبادئه السامية ـ جاء أيضا ليهذب النفس البشرية عن جموحها ويقوم سلوكها ويهديها سبيل الرشاد, فالنفس مائلة بطبعها إلي التوجه إلي السيئ, كما أكد القرآن الكريم في قوله تعالي
إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي)( يوسف:35), وهي غالبا ما تتبع الهوي بغية إشباع رغباته, ومن هنا جاء الاسلام ليعلمنا كيف نكبح جماح تلك النفس حتي تستكين وتعود إلي جادة الصراط المستقيم, وسبيل ذلك تربية النفس علي طاعة الله ورسوله في كل شئ, قال تعالي
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم* قل أطيعوا الله والرسول)( آل عمران:13 ـ23) وقال سبحانه
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون)( الأنفال:02)
لقد وازن الاسلام بين الواجبات التي فرضها علي المسلم وبين ما تطمح إليه نفسه البشرية, فعمل علي ألا تكون فروض الدين شاغله أمره كله وداعية لترك دنياه, بل أمره بالجد والسعي في طلب الرزق وإعمار الأرض, قال تعالي: فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون)( الجمعة:01), وقال
وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك)( القصص:77), وعن حنظلة قال: كنا عند رسول الله صلي الله عليه وسلم فوعظنا فذكر النار, ثم جئت إلي البيت فضاحكت الصبيان ولا عبت المرأة, فخرجت فلقيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: وأنا قد فعلت مثل ما تذكر. فلقينا رسول الله صلي الله عليه وسلم, فقلت: يارسول الله نافق حنظلة فقال: مه. فحدثته بالحديث, فقال أبوبكر: وأنا قد فعلت مثل ما فعل فقال: والذي نفسي بيده إن لو تدومون علي ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة علي فرشكم وفي طرقكم, ولكن يا حنظلة ساعة وساعة( أخرجه مسلم49/
, ومن ذلك ما قاله عبدالله بن عمرو بن العاص: احرز لدنياك كأنك تعيش أبدا, واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا( مسند الحارث983/2).
فالاستغراق في المأمول بلا حدود هو الطموح الزائد الذي ينقلب إلي جموح, وهو أمر مرفوض في الاسلام, قال الله عز وجل
ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا)( الإسراء:73), أما إذا أعاد الإنسان ضبط هذا المأمول في إطار المشروع, وفي اطار ما أحله الله وأباحه ودون الخروج عن الهدي النبوي الكريم, وبما لا يخالف النظام العام, فسوف يصل إلي هدفه ويحقق طموحه الذي يأمله دون منغصات أو وخز ضمير أو نظرات مستهجنة من البشر حوله, ويكون بهذا قد حقق التوازن والاتساق بين ما تطمح إليه نفسه وبين ما يأمره به ربه, والإنسان المسلم حين يحقق هذا التصالح مع ذاته ونفسه يصل إلي التسامح والتصالح مع الآخرين من حوله, فيعيش المجتمع المسلم في طمأنينة واستقرار, لأن كل فرد فيه يعمل علي جلب النفع ودفع الضر, سواء لنفسه أو لغيره, تحت قاعدة: المسلم يحب لأخيه ما يحب لنفسه. ومن ثم كان سبيل المسلمين لا إفراط فيه ولا تفريط.
الأهرام