بسم الله الرحمن الرحيم
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عن موقع الإسلام
_________________________________
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله من الدين . فإن رسالة الله : إما إخبار ، وإما إنشاء .
فالإخبار عن نفسه وعن خلقه : مثل التوحيد والقصص الذي يندرج فيه الوعد والوعيد . والإنشاء الأمر والنهي والإباحة . وهذا كما ذكر في أن قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( سورة الإخلاص : آية 1 ) . تعدل ثلث القرآن ؛ لتضمنها ثلث التوحيد ؛ إذ هو قصص وتوحيد وأمر .
وقوله سبحانه في صفة نبينا ، صلى الله عليه وسلم : يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ( سورة الأعراف : من الآية 157 ) هو بيان لكمال رسالته ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر الله على لسانه بكل معروف ، ونهى عن كل منكر وأحل كل طيب وحرم كل خبيث ، ولهذا روي عنه أنه قال : إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق . وقال في الحديث المتفق عليه : مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة فكان الناس يطيفون بها ويعجبون من حسنها ويقولون : لولا موضع اللبنة ! فأنا تلك اللبنة . فبه كمل دين الله المتضمن للأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر ، وإحلال كل طيب وتحريم كل خبيث . وأما من قبله من الرسل فقد كان يحرم على أممهم بعض الطيبات ، كما قال : فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( سورة النساء : من الآية 165 ) . وربما لم يحرم عليهم جميع الخبائث ، كما قال تعالى : كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ( سورة آل عمران : من الآية 93 ) .
وتحريم الخبائث يندرج في معنى : " النهي عن المنكر " ، كما أن إحلال الطيبات يندرج في : " الأمر بالمعروف " ، لأن تحريم الطيبات مما نهى الله عنه ، وكذلك الأمر بجميع المعروف والنهي عن كل منكر مما لم يتم إلا للرسول الذي تمم الله به مكارم الأخلاق المندرجة في المعروف ، وقد قال الله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ( سورة المائدة : من الآية 3 ) . فقد أكمل الله لنا الدين ، وأتم علينا النعمة ، ورضي لنا الإسلام دينا .
وكذلك وصف الأمة بما وصف به نبيها حيث قال : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ( سورة آل عمران : من الآية 110 ) . وقال تعالى : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ( سورة التوبة : من الآية 71 ) . ولهذا قال أبو هريرة : كنتم خير الناس للناس ، تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة . فبين سبحانه أن هذه الأمة خير الأمم للناس : فهم أنفعهم لهم ، وأعظمهم إحسانا إليهم ؛ لأنهم كملوا أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر من جهة الصفة والقدر ، حيث أمروا بكل معروف ونهوا عن كل منكر لكل أحد ، وأقاموا ذلك بالجهاد في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم ، وهذا كمال النفع للخلق .
وسائر الأمم لم يأمروا كل أحد بكل معروف ولا نهوا كل أحد عن كل منكر ، ولا جاهدوا على ذلك . بل منهم من لم يجاهد ، والذين جاهدوا كبني إسرائيل فعامة جهادهم كان لدفع عدوهم عن أرضهم ، كما يقاتل الصائل الظالم ؛ لا لدعوة المجاهدين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، كما قال موسى لقومه : يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ( سورة المائدة : الآيتان 21 ، 22 ) . إلى قوله : قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ( سورة المائدة : آية 24 ) . وقال تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ( سورة البقرة : من الآية 246 ) . فعللوا القتال بأنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم ، ومع هذا فكانوا ناكلين عما أمروا به من ذلك ؛ ولهذا لم تحل لهم الغنائم ولم يكونوا يطؤون بملك اليمين .
ومعلوم أن أعظم الأمم المؤمنين قبلنا بنو إسرائيل ؛ كما جاء في الحديث المتفق على صحته في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال : عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد ، ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق فرجوت أن يكون أمتي ؛ فقيل : هذا موسى وقومه . ثم قيل لي : انظر فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق ، فقيل : هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب . فتفرق الناس ولم يبين لهم ، فتذاكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : أما نحن فولدنا في الشرك ولكنا آمنا بالله ورسوله ، ولكن هؤلاء أبناؤنا ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة بن محصن فقال : أمنهم أنا يا رسول الله ؛ قال : نعم فقام آخر فقال : أمنهم أنا ؛ فقال : سبقك بها عكاشة .
ولهذا كان إجماع هذه الأمة حجة ؛ لأن الله تعالى أخبر أنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر ؛ فلو اتفقوا على إباحة محرم أو إسقاط واجب ، أو تحريم حلال ، أو إخبار عن الله تعالى أو خلقه بباطل : لكانوا متصفين بالأمر بمنكر والنهي عن معروف : من الكلم الطيب والعمل الصالح ؛ بل الآية تقتضي أن ما لم تأمر به الأمة فليس من المعروف ، وما لم تنه عنه فليس من المنكر . وإذا كانت آمرة بكل معروف ناهية عن كل منكر : فكيف يجوز أن تأمر كلها بمنكر أو تنهى كلها عن معروف ؟ والله تعالى كما أخبر بأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فقد أوجب ذلك على الكفاية منها بقوله : وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( سورة آل عمران : آية 104 ) .
وإذا أخبر بوقوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها لم يكن من شرط ذلك أن يصل أمر الآمر ونهي الناهي منها إلى كل مكلف في العالم ؛ إذ ليس هذا من شرط تبليغ الرسالة : فكيف يشترط فيما هو من توابعها ؛ بل الشرط أن يتمكن المكلفون من وصول ذلك إليهم . ثم إذا فرطوا فلم يسعوا في وصوله إليهم مع قيام فاعله بما يجب عليه : كان التفريط منهم لا منه .
وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه ، بل هو على الكفاية ، كما دل عليه القرآن ، ولما كان الجهاد من تمام ذلك كان الجهاد أيضا كذلك ، فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه أثم كل قادر بحسب قدرته ؛ إذ هو واجب على كل إنسان بحسب قدرته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان .
وإذا كان كذلك ؛ فمعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتمامه بالجهاد هو من أعظم المعروف الذي أمرنا به ؛ ولهذا قيل : ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر ، وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات فالواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة ؛ إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب ، والله لا يحب الفساد ؛ بل كل ما أمر الله به فهو صلاح . وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وذم المفسدين في غير موضع ، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به ، وإن كان قد ترك واجب وفعل محرم ؛ إذ المؤمن عليه أن يتقي القه في عباده وليس عليه هداهم ، وهذا معنى قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ( سورة المائدة : من الآية 105 ) . والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب ، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضلال .
وذلك يكون تارة بالقلب ، وتارة باللسان ، وتارة باليد . فأما القلب فيجب بكل حال ؛ إذ لا ضرر في فعله ، ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : وذلك أدنى - أو - أضعف الإيمان وقال : ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل وقيل لابن مسعود : من ميت الأحياء ؟ فقال : الذي لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا . وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان .
وهنا يغلط فريقان من الناس :
فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلا لهذه الآية ، كما قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في خطبته إنكم تقرؤون هذه الآية : عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ( سورة المائدة : من الآية 105 ) وإنكم تضعونها في غير موضعها ، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه .
والفريق الثاني : من يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقا ، من غير فقه وحلم وصبر ونظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح ، وما يقدر عليه وما لا يقدر ، كما في حديث أبي ثعلبة الخشني : سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، ورأيت أمرا لا يدان لك به ، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام ؛ فإن من ورائك أياما الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر ، للعامل فيهن كأجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله فيأتي بالأمر والنهي معتقدا أنه مطيع في ذلك لله ورسوله وهو معتد في حدوده ، كما انتصب كثير من أهل البدع والأهواء ، كالخوارج والمعتزلة والرافضة ، وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهي والجهاد على ذلك ، وكان فساده أعظم من صلاحه ؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة ، ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة ، وقال : أدوا إليهم حقوقهم ، وسلوا الله حقوقكم . وقد بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع .
ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة ، وترك القتال في الفتنة ، وأما أهل الأهواء - كالمعتزلة - فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم ، ويجعل المعتزلة أصول دينهم خمسة : " التوحيد " الذي هو سلب الصفات ؛ و " العدل " الذي هو التكذيب بالقدر ؛ و " المنزلة بين المنزلتين " و " إنفاذ الوعيد " و " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " . الذي منه قتال الأئمة .
وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع . وجماع ذلك داخل في " القاعدة العامة " : فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت ، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد ، وتعارضت المصالح والمفاسد . فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له ؛ فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به ، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته ؛ لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها ، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر ، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام .
وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما ، بل إما أن يفعلوهما جميعا ، أو يتركوهما جميعا : لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر ؛ بل ينظر : فإن كان المعروف أكثر أمر به ، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر ، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه ، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله وزوال فعل الحسنات . وإن كان المنكر أغلب نهي عنه ؛ وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف ؛ ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرا بمنكر وسعيا في معصية الله ورسوله . وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما .
فتارة يصلح الأمر ، وتارة يصلح النهي ، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين ؛ وذلك في الأمور المعينة الواقعة .
وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقا ، وينهى عن المنكر مطلقا . وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها ، ويحمد محمودها ويذم مذمومها ؛ بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه أو حصول منكر فوقه ، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول أنكر منه ، أو فوات معروف أرجح منه .
وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق ، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية ؛ وإذا تركها كان عاصيا ، فترك الأمر الواجب معصية ، وفعل ما نهي عنه من الأمر معصية . وهذا باب واسع ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ومن هذا الباب إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان ، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم ، وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمدا يقتل أصحابه ؛ ولهذا لما خاطب الناس في قصة الإفك بما خاطبهم به واعتذر منه ، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه : حمي له سعد بن عبادة مع حسن إيمانه .
وأصل هذا أن تكون محبة الإنسان للمعروف وبغضه للمنكر ، وإرادته لهذا ، وكراهته لهذا : موافقة لحب الله وبغضه ، وإرادته وكراهته الشرعيين . وأن يكون فعله للمحبوب ودفعه للمكروه بحسب قوته وقدرته ، فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وقد قال : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ( سورة التغابن : من الآية 16 ) . فأما حب القلب وبغضه وإرادته وكراهيته فينبغي أن تكون كاملة جازمة ؛ لا يوجب نقص ذلك إلا نقص الإيمان .
وأما فعل البدن فهو بحسب قدرته ، ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة وفعل العبد معها بحسب قدرته : فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل ، كما قد بيناه في غير هذا الموضع ، فإن من الناس من يكون حبه وبغضه وإرادته وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها ؛ لا بحسب محبة الله ورسوله وبغض الله ورسوله ، وهذا من نوع الهوى ؛ فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هواه : وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ( سورة القصص : من الآية 50 ) ؛ فإن أصل الهوى محبة النفس ، ويتبع ذلك بغضها ، ونفس الهوى - وهو الحب والبغض الذي في النفس - لا يلام عليه ؛ فإن ذلك قد لا يملك ، وإنما يلام على اتباعه ؛ كما قال تعالى : يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ( سورة ص : من الآية 26 ) . وقال تعالى : وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ( سورة القصص : من الآية 50 ) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ثلاث منجيات : خشية الله في السر والعلانية ، والقصد في الفقر والغنى ، وكلمة الحق في الغضب والرضا . وثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه .
والحب والبغض يتبعه ذوق عند وجود المحبوب والمبغض ، ووجد وإرادة ، وغير ذلك ، فمن اتبع ذلك بغير أمر الله ورسوله فهو ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ؛ بل قد يصعد به الأمر إلى أن يتخذ إلهه هواه ، واتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات ، فإن الأول حال الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ؛ كما قال تعالى : فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ( سورة القصص : من الآية 50 ) . وقال تعالى : ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ ( سورة الروم : من الآية 28 ) . إلى أن قال : بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ( سورة الروم : من الآية 29 ) . وقال تعالى : وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ( سورة الأنعام : من الآية 119 ) . وقال تعالى : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ( سورة المائدة : من الآية 77 ) . وقال تعالى : وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ( سورة البقرة : آية 120 ) . وقال تعالى في الآية الأخرى : وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ( سورة البقرة : من الآية 145 ) . وقال : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ( سورة المائدة : من الآية 49 ) .
ولهذا كان من خرج عن موجب الكتاب والسنة من العلماء والعباد يجعل من أهل الأهواء ؛ كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء ؛ وذلك أن كل من لم يتبع العلم فقد اتبع هواه ؛ والعلم بالدين لا يكون إلا بهدي الله الذي بعث به رسوله ؛ ولهذا قال تعالى في موضع : وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ( سورة الأنعام : من الآية 119 ) . وقال في موضع آخر : وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ( سورة القصص : من الآية 50 ) .
فالواجب على العبد أن ينظر في نفس حبه وبغضه ، ومقدار حبه وبغضه : هل هو موافق لأمر الله ورسوله ؟ وهو هدي الله الذي أنزله على رسوله ؛ بحيث يكون مأمورا بذلك الحب والبغض ، لا يكون متقدما فيه بين يدي الله ورسوله ؛ فإنه قد قال : لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ( سورة الحجرات : من الآية 1 ) . ومن أحب أو أبغض قبل أن يأمره الله ورسوله ففيه نوع من التقدم بين يدي الله ورسوله . ومجرد الحب والبغض هوى ؛ لكن المحرم اتباع حبه وبغضه بغير هدي من الله ؛ ولهذا قال : وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ( سورة ص : من الآية 26 ) . فأخبر أن من اتبع هواه أضله ذلك عن سبيل الله ، وهو هداه الذي بعث به رسوله ، وهو السبيل إليه .
وتحقيق ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها ، وقد قال تعالى : لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ( سورة الملك : من الآية 2 ) . وهو كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله : أخلصه وأصوبه . فإن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا ، والخالص : أن يكون لله ، والصواب أن يكون على السنة ، فالعمل الصالح لا بد أن يراد به وجه الله تعالى ؛ فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه وحده : كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا بريء منه ، وهو كله للذي أشرك .
وهذا هو التوحيد الذي هو أصل الإسلام ، وهو دين الله الذي بعث به جميع رسله ، وله خلق الخلق ، وهو حقه على عباده : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، ولا بد مع ذلك أن يكون العمل صالحا ، وهو ما أمر الله به ورسوله ؛ وهو الطاعة ، فكل طاعة عمل صالح ، وكل عمل صالح طاعة ، وهو العمل المشروع المسنون ؛ إذ المشروع المسنون هو المأمور به أمر إيجاب أو استحباب ، وهو العمل الصالح ، وهو الحسن ، وهو البر وهو الخير ؛ وضده المعصية والعمل الفاسد ، والسيئة ، والفجور ، والظلم .
ولما كان العمل لا بد فيه من شيئين : النية والحركة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : أصدق الأسماء حارث وهمام فكل أحد حارث وهمام له عمل ونية ؛ لكن النية المحمودة التي يتقبلها الله ويثيب عليها : أن يراد الله بذلك العمل . والعمل المحمود الصالح ، وهو المأمور به ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه : اللهم اجعل عملي كله صالحا ، واجعله لوجهك خالصا ، ولا تجعل لأحد فيه شيئا .
وإذا كان هذا حد كل عمل صالح ؛ فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يجب أن يكون هكذا في حق نفسه ، ولا يكون عمله صالحا إن لم يكن بعلم وفقه ، وكما قال عمر بن عبد العزيز : من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح ، وكما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه : العلم إمام العمل والعمل تابعه وهذا ظاهر . فإن القصد والعمل إن لم يكن بعلم كان جهلا وضلالا واتباعا للهوى كما تقدم ، وهذا هو الفرق بين أهل الجاهلية وأهل الإسلام ، فلا بد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما . ولا بد من العلم بحال المأمور والمنهي ، ومن الصلاح أن يأتي بالأمر والنهي بالصراط المستقيم ، وهو أقرب الطرق إلى حصول المقصود .
ولا بد في ذلك من الرفق ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما كان الرفق في شيء إلا زانه ، ولا كان العنف في شيء إلا شانه وقال : إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ، وبعطي عليه مالا يعطي على العنف
ولا بد أيضا أن يكون حليما صبورا على الأذى : فإنه لا بد أن يحصل له أذى ؛ فإن لم يحلم ويصبر كان ما يفسد أكثر مما يصلح : كما قال لقمان لابنه : وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ( سورة لقمان : من الآية 17 ) . ولهذا أمر الله الرسل - وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - بالصبر ، كقوله لخاتم الرسل ؛ بل ذلك مقرون بتبليغ الرسالة ؛ فإنه أول ما أرسل أنزلت عليه سورة : يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ بعد أن أنزلت عليه سورة : " أقرأ " التي بها نبئ فقال : يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ( سورة المدثر : الآيات 1-7 ) . فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالنذارة ، وختمها بالأمر بالصبر ، ونفس الإنذار أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ؛ فعلم أنه يجب بعد ذلك الصبر ، وقال : وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ( سورة الطور : من الآية 48 ) . وقال تعالى : وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ( سورة المزمل : آية 10 ) . فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ( سورة الأحقاف : من الآية 35 ) . فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ ( سورة القلم : من الآية 48 ) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ( سورة النحل : من الآية 127 ) . وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( سورة هود : آية 115 ) .
فلا بد من هذه الثلاثة : العلم ، والرفق ، والصبر . العلم قبل الأمر والنهي ، والرفق معه ، والصبر بعده ، وإن كان كل من الثلاثة مستصحبا في هذه الأحوال ؛ وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعا ، ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد : لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيها فيما يأمر به ، فقيها فيما ينهى عنه ، رفيقا فيما يأمر به ، رفيقا فيما ينهى عنه ؛ حليما فيما يأمر به ، حليما فيما ينهى عنه
وليعلم أن الأمر بهذه الخصال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يوجب صعوبة على كثير من النفوس ، فيظن أنه بذلك يسقط عنه ، فيدعه ، وذلك مما يضره أكثر مما يضره الأمر بدون هذه الخصال أو أقل ؛ فإن ترك الأمر الواجب معصية ، فالمنتقل من معصية إلى معصية أكبر منها كالمستجير من الرمضاء بالنار ، والمنتقل من معصية إلى معصية كالمنتقل من دين باطل إلى دين باطل ، وقد يكون الثاني شرا من الأول ، وقد يكون دونه ، وقد يكونان سواء ، فهكذا تجد المقصر في الأمر والنهي والمعتدي فيه قد يكون ذنب هذا أعظم ، وقد يكون ذنب هذا أعظم ، وقد يكونان سواء .
ومن المعلوم بما أرانا الله من آياته في الآفاق وفي أنفسنا وبما شهد به في كتابه : أن المعاصي سبب المصائب ، فسيئات المصائب والجزاء من سيئات الأعمال ، وأن الطاعة سبب النعمة ، فإحسان العمل سبب لإحسان الله ، قال تعالى : وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ( سورة الشورى : آية 30 ) . وقال تعالى : مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ( سورة النساء : من الآية 79 ) . وقال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ( سورة آل عمران : من الآية 155 ) . وقال : أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ( سورة آل عمران : من الآية 165 ) . وقال : أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ( سورة الشورى : آية 34 ) . وقال : وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ ( سورة الشورى : من الآية 48 ) . وقال تعالى : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( سورة الأنفال : آية 33 ) .
وقد أخبر سبحانه بما عاقب به أهل السيئات من الأمم ، كقوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وأصحاب مدين ، وقوم فرعون ، في الدنيا . وأخبر بما يعاقبهم به في الآخرة ، ولهذا قال مؤمن آل فرعون : يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( سورة غافر : من الآية 30 ، والآيات 31-33 ) . وقال تعالى : كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ( سورة القلم : من الآية 33 ) . وقال : سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ( سورة التوبة : من الآية 101 ) . وقال : وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( سورة السجدة : آية 21 ) . وقال : فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ( سورة الدخان : آية 10 ) . إلى قوله : يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ( سورة الدخان : آية 16 ) .
ولهذا يذكر الله في عامة سور الإنذار ما عاقب به أهل السيئات في الدنيا وما أعده لهم في الآخرة ، وقد يذكر في السورة وعد الآخرة فقط ، إذ عذاب الآخرة أعظم ، وثوابها أعظم ، وهي دار القرار ، وإنما يذكر ما يذكره من الثواب والعذاب في الدنيا تبعا ، كقوله في قصة يوسف : وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( سورة يوسف : الآيتان 56 ، 57 ) . وقال : فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ( سورة آل عمران : من الآية 148 ) . وقال : وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( سورة النحل : الآيتان 41 ، 42 ) . وقال عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام : وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( سورة العنكبوت : من الآية 27 ) . وأما ذكره لعقوبة الدنيا والآخرة ففي سورة : وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ثم قال : يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ( سورة النازعات : الآيتان 6 ، 7 ) .
فذكر القيامة مطلقا ، ثم قال : هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ( سورة النازعات : الآيات 15-17 ) 0 إلى قوله : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ( سورة النازعات : آية 26 ) ، ثم ذكر المبدأ والمعاد مفصلا فقال : أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ( سورة النازعات : آية 27 ) . إلى قوله تعالى : فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ( سورة النازعات : آية 34 ) . إلى قوله تعالى : فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ( سورة النازعات : الآيات 37 - 41 ) إلى آخر السورة .
وكذلك في " المزمل " ذكر قوله : وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ( سورة المزمل : الآيات 11-13 ) إلى قوله تعالى : كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ( سورة المزمل : من الآية 15 ، وآية 16 ) .
وكذلك في : " سورة الحاقة " . ذكر قصص الأمم ، كثمود وعاد وفرعون ثم قال تعالى : فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ( سورة الحاقة : الآيتان 13 ، 14 ) . إلى تمام ما ذكره من أمر الجنة والنار .
وكذلك في سورة " القلم " . ذكر قصة أهل البستان الذين منعوا حق أموالهم وما عاقبهم به ، ثم قال : كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( سورة القلم : آية 33 ) .
وكذلك في : " سورة التغابن " . قال : أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( سورة التغابن : الآيتان 5 ، 6 ) . ثم قال : زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ( سورة التغابن : من الآية 7 ) .
وكذلك في سورة : " ق " ذكر حال المخالفين للرسل ؛ وذكر الوعد والوعيد في الآخرة .
وكذلك في " سورة القمر " ذكر هذا وهذا .
وكذلك في " الحواميم " مثل حم غافر ، والسجدة ، والزخرف ، والدخان ، وغير ذلك ، إلى غير ذلك مما لا يحصى .
فإن التوحيد والوعد والوعيد هو أول ما أنزل ، كما في صحيح البخاري عن يوسف بن ماهك قال : إني عند عائشة أم المؤمنين إذ جاءها عراقي فقال : أي الكفن خير ؟ قالت : ويحك ! وما يضرك ؟ قال : يا أم المؤمنين أريني مصحفك . قالت : لم ؟ قال : لعلي أؤلف القرآن عليه ، فإنه يقرأ غير مؤلف ، قالت : وما يضرك أية قرأت قبل ، إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا : لا ندع الخمر أبدا ، ولو نزل لا تزنوا لقالوا : لا ندع الزنى أبدا ، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم ، وإني لجارية ألعب : بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ( سورة القمر : آية 46 ) . وما نزلت : " سورة البقرة " . و " النساء " . إلا وأنا عنده ، قال : فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السور .
وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان فقد يذنب الرجل أو الطائفة ويسكت آخرون عن الأمر والنهي ، فيكون ذلك من ذنوبهم ، وينكر عليهم آخرون إنكارا منهيا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم ، فيحصل التفرق والاختلاف والشر ، وهذا من أعظم الفتن والشرور قديما وحديثا ، إذ الإنسان ظلوم جهول ، والظلم والجهل أنواع ، فيكون ظلم الأول وجهله من نوع ، وظلم كل من الثاني والثالث وجهلهما من نوع آخر .
ومن تدبر الفتن الواقعة رأى سببها ذلك ، ورأى أن ما وقع بين أمراء الأمة وعلمائها ومن دخل في ذلك من ملوكها ومشايخها ، ومن تبعهم من العامة من الفتن : هذا أصلها ، يدخل في ذلك أسباب الضلال والغي : التي هي الأهواء الدينية والشهوانية ، وهي البدع في الدين والفجور في الدنيا ، وذلك أن أسباب الضلال والغي البدع في الدين ، والفجور في الدنيا ، وهي مشتركة : تعم بني آدم ، لما فيهم من الظلم والجهل ، فبذنب بعض الناس يظلم نفسه وغيره ، كالزنى بلواط وغيره ، أو شرب خمر ، أو ظلم في المال بخيانة أو سرقة أو غصب ، أو نحو ذلك .