منحنا الله نعمة التذكر لكيلا ننسى الأشياء الجميلة التي تمر في حياتنا. لكن، ذاكرتنا لا تستعيد فقط التجارب السعيدة. أحياناً، نسعى إلى التحرر من الماضي وذكرياته المؤلمة التي تقبع في أعماقنا، منتظرة اللحظة المناسبة لتنقض على حاضرنا لتدمره.
وُلد مارك، 45 عاماً، في فيتنام، حيث تربى في كنف والديه الفيتناميين ثماني سنوات، إلى أن اندلعت الحرب ضد أميركا. شكلت هذه الحرب نقطة تحول في حياته، وطَبعت في ذاكرته صوراً مرعبة لاتزال تطارده بعد مضي أكثر من 30 عاماً. يخبر مارك: «في هذه الفترة، عمت الفوضى في بلدي، وفجأة وجد والدي نفسه من دون عمل. قررت والدتي تَركي في أحد الأديرة، لأنه لم يعد في مقدورها تأمين الطعام لي، لكنها لم تعد بعد ذلك لتأخذني. تربيت في كنف الراهبات مدة سنة، قبل أن أرسل إلى أسرتي بالتبني في فرنسا».
يتابع مارك: «لا أخفي سراً إذا قلت إن أول خمس سنوات لي في فرنسا كانت بمثابة كابوس حقيقي. كانت صور الحرب والمجازر، وذكرى عائلتي وبلدي تطاردني كل ليلة، مازلت أفكر في تلك الفترة. في الواقع، أعتقد أنه لم يمر يوم من دون أن أفكر في ماضيّ. لاتزال هذه الذكريات قابعة في إحدى زوايا فكري، تحاول، بين الفينة والأُخرى، التدخل في حاضري. صحيح أن هذا الماضي، على الرغم من كل السواد الذي يلطخ لحظاته، يمدني بقوة غريبة تسمح لي بالمضي قدماً، كلما واجهت مشكلة آنية، إلاّ أنه من جهة أُخرى يولِّد فـيَّ رهبة ما، كما لو أنه موجة عارمة تجتاح كياني وتتملكني بشكل أعجز فيه عن التخلص منها».
الذاكرة الوراثية والهوية
الماضي بالنسبة إلى البعض ليس سوى مجموعة من التجارب المؤلمة التي خلّفت جروحاً عميقة يصعب الشفاء منهامن الصعب أن نخفي ماضينا ونتجاهله، لأن بصماته تبقى قائمة وفاعلة، فمنه نستمد العِبر والحكمة، ومن خلاله نرسم تجاربنا في هذه الحياة. أضف إلى ذلك، أننا غالباً ما نكرمه ونستعيده من خلال بعض الطقوس التي نمارسها بفرح، مثل احتفالات أعياد الميلاد التي تُغرقنا في دوامة الذكريات وتضعنا في مواجهة الزمن. نتذكر، من خلالها، حالنا منذ عام أو عامين أو ثلاثة أعوام، ونشرع في محاسبة ذواتنا كي لا نكرر أخطاءنا الماضية.
يَعتبـــــر المفكــر الهندوســـــي «جيدو كريشناموتري» أن الإنسان هو نتاج ذاكرته وماضيه، إذ يقول: «إن تصرفاتنا وسلوكياتنا في الحاضر تحددها تأثيرات اللحظات والأحداث والتجارب القوية، والآثار الباقية من الماضي والتي تراكمت على مر الأعوام».
تعتمد هذه الآثار في جزء منها على ذاكرتنا الوراثية، المسؤولة عن تكوين الذكريات والمعاناة واللحظات الأولى للسعادة. يشرح عالم النفس هنري فايزر قائلاً: «تُمثل الذاكرة الوراثية مهد ماضينا، والركيزة الأساسية لهويتنا. نحن لا نتلقى من أهلنا المعرفة التي اكتسبوها من تجاربهم والأفراح التي شعروا بها فحسب، بل أيضاً شكوكهم ومعاناتهم وآلامهم ومخاوفهم، فننمو ونكبر تدريجياً على هذه المعلومات المتناقضة».
تكرار التجارب
لكن، الماضي بالنسبة إلى البعض منا ليس سوى مجموعة من التجارب المؤلمة، التي خلّفت جروحاً عميقة يصعب الشفاء منها، كأن يتعرض للاغتصاب أو يشهد موت أحد الأقرباء أو يختبر معنى الهجر. يَعتبر سافيريو توماسيلا، محلل نفسي ومؤلف كتاب «كيف أتصالح مع ذاتي؟»، أن هذه الجروح، غالباً ما تقوِّض جهود صاحبها المبذولة من أجل بناء حالة نفسية مستقرة. إذ تسبب له مشكلات سلوكية عدة تمنعه من عيش حياة منفتحة، وتغرقه في دوامة من الاكتئاب، إضافة إلى أنها تبث فيه شعوراً عميقاً بالوحدة يجرده من كامل طاقته الإيجابية».
يَعتبر الطبيب سيغموند فرويد، أن في داخل كل إنسان آلية معينة تدفعه إلى تكرار عيش تجارب الماضي، من خلال الأحاسيس والعاطفة الطفولية. تتحكم غريزة التقليد هذه في مقاليد علاقاتنا العاطفية ومشاعرنا، وتُرغمنا، نوعاً ما، على إعادة تكرار السيناريوهات ذاتها. استناداً إلى ذلك، قد يعاود الإنسان الذي تعرض لضرب مبرّح على يد أحد والديه، عيش هذه التجربة طيلة حياته، أو على العكس قد يتخذ موقفاً جذرياً لدرجة الهوس، يمتنع خلاله عن التعاطي مع الأطفال خوفاً من أن يؤذيهم.
الحداد
لكن آلية التكرار ممكن أن يوضع لها حد أو أن يتم تخطيها كلياً، من خلال علم النفس والعلاج النفسي. كيف؟
في البداية، يجب تحديد الصدمة العاطفية التي عاناها الإنسان. لهذا، يتولى المعالج النفسي البحث في اللاوعي والذاكرة، لاستخراج العناصر الأساسية التي تسبب له الاضطرابات. يُذكر أن هذا الغوص العميق في الذات يتم عادة عندما يكون المريض ممداً على كنبة مريحة، لأن هذه الوضعية الجسمية تُسهل عودة الفرد إلى مرحلة الطفولة، حين كان عاجزاً عن التحكم في عضلاته، ومعتمداً كلياً على والدته. في المرحلة الثانية من العلاج، لابد من إعلان الحداد على هذا الماضي.
وإعلان الحداد على الماضي لا يعني بالضرورة محوه أو نسيانه، وإنما فهمه وتوجيهه وتحويله إلى عنصر حيوي، تقبله الذات. لكن، هذه العملية لا تتم بسهولة، لأن ذاكرتنا، غالباً تكون مثقلة بالندم والأحزان والآلام. هنا يأتي دور المحلل النفسي في إزالة هذا العبء والتخفيف من ثقل الذكريات، كي يتمكن كل مريض من اكتشاف الآلية السليمة لإجراء الإصلاحات اللازمة لانفتاحه وتحرره. الهدف من هذه العملية ألاَّ تترك جروح الماضي أثاراً يعيشها الإنسان مستقبلاً وتتحول إلى نقطة ضعفه.
منقووووول