تكوين الأسراب والهجرة في عالم الأسماك الكاتب: د.رمضان مصري هلال
كل ما حولنا من كائنات يشير إلى عظمة الخالق جل في علاه... ليست فقط الكائنات التي على سطح الأرض، ولكن أيضاً هناك حيوانات وكائنات ومخلوقات تسبح في الماء... بلغت حد الروعة وقمة الإعجاز في الخلق وصدق الحق... «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق». وفي هذا المقال بتوفيق الله نغوص في الماء لنتعرف عن قرب عن واحد من هذه المخلوقات لنرى كيف تعيش وتتحرك... تتنفس وتتغذى... تهاجم وتدافع... تأكل وتؤكل... تحاور وتناور وتهاجر من مكان إلى آخر... تولد شحنات كهربية... هادئة ولكنها خطرة... مضيئة تجعل من أعماق البحر درراً متلألئة، تلك هي الحياة، فلكل كائن سلاحه وحيلته في وسط كائنات يتربص كل منها بغيره، إذا ملك صرع، إذا ما دعت الأمور إليه حتى لو كان ذلك في أعماق البحار المظلمة.
في الأعماق حيث لا صوت ولا همسة ولا ضوء، بل ظلام دامس وسكون قاتل لا يفيد الأسماك أعين ولا آذان، وعوضا عنها وهبها المولى جل في علاه حاسة الشم، حيث ينتشر على جلد بعض الأسماك خلايا حية تستطيع أن تميز عن طريق الجزيئات المنتشرة في الماء العدو من الصديق... الصالح من الطالح.. أو المفيد من الضار، فتقترب أو تبتعد حيثما يتوافق ذلك مع حياتنا وأمنها.
ذكاء الأسماك وسلوكها
يتميز مخ السمك بشدة التركيز وضمور الأجزاء التي تكونه، إلا أن مخ سمكة الرأي يشبه في تركيبه مع الفقاريات العليا، ومن الغريب أن مخ الأسماك يحوي جميع الأجزاء المكونة لمخ الفقاريات العليا، كما أن حاسة الشم عند الأسماك قوية جداً وتنعدم فيها حاسة التذوق، ومن ذكاء الأسماك أنها تبني لنفسها أعشاشاً لتبيض فيها وما يبديه بعضها من ضروب الإتقان والمهارة في بناء هذه الأعشاش.
الأسماك المهاجرة
إن من طرائف حياة الأسماك الهجرة من مكانها الأصلي إلى أماكن أخرى خلال رحلات قصيرة، وقد تكون طويلة، ومنها سمك الرنجة الذي يهاجر في مجموعات متراصة، سمك المكرونة حيث تقترب من الشاطئ لتضع بيضها صيفاً ثم تتجه إلى عرض البحر مدة الشتاء بعكس السلمون الذي يضطر للهجرة لحفظ نوعه فيسبح بنشاط فائق ضد تيار الماء وقفزته تصل من 1 ـ 3 أمتار.
أما عن هجرة ثعبان السمك ـ التي لا تخلو من الغرابة ـ فمن المياه المالحة إلى العذبة، كذلك العكس، بجانب تغيير لون جلده تبعا لنوع المياه فيختلف لون الظهر من الأخضر إلى المعدني إلى الأزرق المخضر، أما البطن فيختلف من الأصفر إلى الأبيض الفضي.
ومن الجدير بالذكر أن ثعبان السمك يقضي فترة من حياته ما بين 5 إلى 21 عاما في الأنهار ويتغذى خلالها بشراهة لكي يقوى على احتمال الرحلة الطويلة الشاقة في البحار، ومن العجيب في حياة ثعابين السمك أن لها مقدرة على الإحساس بوجود الماء من مسافات بعيدة، كذلك إذا احتجزت في مياه الأنهار لأمر ما فإنها تعجز عن التكاثر، حيث لابد من المياه المالحة لكي يتكاثر ثعبان السمك، كما يعتري إناث ثعابين السمك بعض التغير عندما تنتقل من مياه الأنهار إلى البحار، فيتغير لون بطنها البرونزي إلى اللون الأبيض كما تتضخم أعينها وتزداد زعانفها قوة وعندما تصل إلى المحيط تعوم بسرعة عشرة أميال في اليوم بالقرب من القاع حتى تستقر في مكان وضع البيض جنوب جزر برمودا، على عمق عدة آلاف من الأمتار، ثم تكرر رحلتها بعد الفقس إلى الأنهار فتتوغل الإناث فيها وتبقى الذكور في المصبات ثم تهاجر إلى البحار والمحيطات وهكذا.
هجرة الأسماك
يقصد بهجرة الأسماك انتقالها في مجموعات وفي أوقات معينة ولغرض معين وقد تسمى هجرة موسمية أو هجرة يومية وقد تكون هجرة للتغذية... هجرة للتكاثر أو هجرة نظراً لتغير العوامل الطبيعية والكيميائية.
هجرة الأسماك للتغذية
تهاجر بعض أنواع الأسماك تاركة مكانها الذي تعيش فيه إلى مكان آخر يكون أخصب من الأول ويتوافر فيه الغذاء اللازم لهذه الأسماك، ومن أوضح الأمثلة على هجرة التغذية هي ما كان يحدث على السواحل المصرية الشمالية قبل بناء السد العالي حيث كانت تهاجر أفواج السردين من البحر إلى قرب الشاطئ للتغذية.
هجرة الأسماك للتكاثر
تهاجر بعض الأسماك من المنطقة التي تعيش فيها إلى منطقة أخرى تكون ظروفها الطبيعية والكيماوية والبيولوجية مناسبة لوضع البيض وفقسه ومعيشته ونمو اليرقات، ومن الأمثلة المعروفة أسماك العائلة البورية، ثعبان السمك، أسماك السالمون، أسماك التونة التي تعيش في غرب إسبانيا والبرتغال في البحر المتوسط حيث تهاجر في موسم التكاثر لتضع بيضها في منطقة بين جزيرتي صقلية وسردينيا.
الهجرة لتغير الظروف
الطبيعية والكيميائية
إذا تغير أحد الظروف الطبيعية أو الكيميائية التي تعيش فيها السمكة فإنها تنتقل إلى بيئة أخرى حيث الظروف تكون ملائمة، فإذا كان انتقال الأسماك في مجاميع سميت هذه الظاهرة هجرة... وأهم الظروف الطبيعية والكيميائية التي تدفع السمكة إلى الهجرة هي:
ـ درجة الحرارة: يهاجر كثير من الأسماك نحو خط الاستواء في فصل الشتاء ونحو القطبين في فصل الصيف... كذلك معظم الأسماك النيلية تنتقل إلى القاع في الليالي الشديدة البرودة في فصل الشتاء... كما أن أسماك الماكريل في شمال أوروبا تختفي من الطبقات السطحية عندما يبرد الماء وتنتقل إلى أعماق تصل إلى مئات الأمتار ولا تظهر إلا في الربيع عندما ترتفع درجة الحرارة ويطلق عليها هذه الهجرة هجرة تقضية الشتاء. وعلى العكس من ذلك الأسماك التي تتأثر بارتفاع درجة الحرارة.
وتهاجر السمكة عند حدوث تغيرات في درجة الحرارة عن هذه المعدلات إلى منطقة أخرى حيث تكون درجة الحرارة أكثر ملائمة.
الضوء
تتأثر الأسماك بالضوء بدرجات متفاوتة ويهاجر بعضها هجرة يومية من القاع في اتجاه السطح أو بالعكس، ويتوقف تأثر الأسماك بالضوء على:
ـ نوع السمكة: فهناك أسماك إيجابية الضوء وأخرى أسماك سالبة الضوء، وهناك أسماك ليس للضوء أي أثر على تحركاتها.
ـ عمر السمكة: لوحظ أن الأسماك صغيرة العمر تنجذب بشدة نحو الضوء في حين تحافظ الأسماك الكبيرة على مسافات أبعد. حالة السمكة على مدار اليوم قد تكون السمكة الإيجابية للضوء في بعض الأوقات حاملة أحياناً، إذ تقل استجابة الأسماك للضوء في بعض المواسم مثل موسم التكاثر.
ـ كمية أو شدة الضوء: لوحظ أن بعض أنواع من السردين تتحرك بعيداً عن السطح فجأة أثناء النهار عندما تنخفض شدة الضوء.
أسراب الأسماك
يتكون السرب من نوع واحد من الأسماك ذات حجم وعمر واحد تقريباً، ويتفاوت حجم هذه الأسراب عادة من مئات من الأفراد إلى أسراب هائلة يربو عدد أفرادها عن المليون سمكة، وتسبح الأسماك في السرب الواحد في توافق وتناسق كاملين وبنظام محدد بحيث تسبح السمكة موازية للأخرى مع الاحتفاظ بمسافات فيما بينها تكاد تكون متساوية والتي هي محصلة لقوى الجذب والتنافر فيما بينها، فهي تبتعد عن بعضها إذا اقتربت أكثر من اللازم وينجذب بعضها إلى البعض إذا بعدت المسافات بينها، وهي في سباحتها تستمر في اتجاه واحد وبسرعة واحدة ولا تتخبط الواحدة منها بالأخرى، حتى إذا تغير الاتجاه أو تبدلت السرعة.
قد يكون سرب الأسماك متحركاً يسير في اتجاه محدد وبسرعة ثابتة، بطيئة أو سريعة، وقد يبقى السرب ساكناً في مكان معين حيث يتوفر الغذاء ويكون مناسباً للتوالد ووضع البيض حيث أن وجود أسماك النوع الواحد في سرب هائل يضمن نجاح عملية الإخصاب بتواجد الذكور والإناث معاً، وحيث يمكن وضع البيض في مناطق ملائمة لفقس البيض ونمو الصغار في الظروف البيئية المناسبة والغذاء الوفير، لهذا تهاجر الأسماك في تجمعات وأسراب هائلة إلى مناطق التوالد أو الغذاء مثل سمك الرنجة والسردين والمكاريل، ومن الأسراب ا لمعروفة في البحر الأحمر أسراب أسماك القاصة والشعور والعنبر والبريوني والباركودا «العقام» وغيرهما.
ويختلف شكل السرب من نوع إلى آخر، فقد يكون السرب مستطيلا أو بيضاوي الشكل أو غير محدد أميبي الشكل أو يكون مثلثا أو كرويا على هيئة طاحونة هائلة حيث يدور أفراد السرب حول نقطة متوسطة مثل عجلة هائلة تدور حول محور ثابت، ويتوقف شكل السرب على عدد الأسماك التي يتكون منها.
وقد يتغير شكل السرب من وقت لآخر، فسمك المانهاون الأطلنطي يكون أسرابا هائلة ذات شكل أميبي يغير باستمرار من شكله واتجاهه لكنه يبقى متماسكا، ويعزى التغيير في شكل السرب إلى التغيرات التي تحدث بالبيئة الحاضنة للسرب حيث يحدث تغيرا في تركيز الأوكسجين الذائب وكمية الغذاء التي تقل باستمرار، كما أن تركيز ثنائي أكسيد الكربون يزيد معدله داخل السرب نتيجة لعمليات التنفس كذلك تزيد الفضلات كل ذلك يدفع أفراد السرب لتغيير مكانها حتى تحصل على حاجتها من الأوكسجين والغذاء الكافي، فالأسماك التي توجد داخل السرب تغير مكانها لخارجه وبالعكس. كما أن شكل وتوزيع بعض أسراب الأسماك يتوقف على سرعة واتجاه التيارات المائية وطبوغرافيا القاع.
وتشترك الأسماك التي تكون أسرابا في صفات متميزة تجعلها مهيأة لهذا السلوك وهذه الصفات هي:
- اللون يكون فضيا لامعا بصفة عامة وخاصة الجوانب حتى تصدر عنها انعكاسات لامعة في الضوء مما يجعلها مرئية لأفراد السرب.
- الزعانف الصدرية صغيرة ومحدودة الحركة حيث أن العضلات المتصلة بها ضعيفة.
- لا يمكنها السباحة للخلف وهذه من أهم الصفات التي تجعلها تحافظ على حركتها للأمام لتحتفظ بموقعها في السرب مع ضبط حركتها مع باقي الأفراد.
- الأعين بعيدة الرؤية وداكنة اللون.
فائدة تكون الأسراب
إن وجود الأسماك في أسراب كبيرة قد تكون نوعا من الحماية لها فهي تتحرك ضمن سرب هائل يظهر وكأنه كائن كبير يخيف المهاجمين ويسبب الحيرة للأعداء، كما أن الفرد يجد الحماية عندما يكون في مجموعة كبيرة، فوجود السمكة ضمن سرب كبير يقلل من قدرة أعدائها على القبض عليها أو مطاردتها.
فحركة السرب في الماء تسهل حركة الأفراد ومقاومتها للماء وسباحتها بسرعة كبيرة.
إن تكوين الأسراب قد تكون بدافع الهجرة في جماعات كبيرة إلى المناطق التي يكون فيها الغذاء المفضل وفيرا كما هي الحال في أسماك الرنجة والماكريل وكذلك للتواجد في أفضل الظروف البيئية من حرارة معلومة وتركيب كيميائي وغيره، كما قد تهاجر الأسماك في أسراب كبيرة إلى المناطق الملائمة لوضع البيض ونمو الصغار حيث يتوفر لها الغذاء والبيئة المناسبين، ومن أسماك البحر الأحمر التي تهاجر في جماعات للتناسل سمك السليخ والعنبر البلدي، والشعور والباغة القاصة وغيرهما.
العوامل التي تساهم
في تكوين السرب:
إن السرعة المتوافقة لكل فرد في السرب، والاستجابة التلقائية لكل أفراد السرب في اللحظة نفسها، وترتيب الأفراد بحيث يتوازى كل الأفراد معا مع ثبات المسافات فيما بينها، وكذلك السرعة والاتجاه، وكل ذلك يوحي بأن هذه الأسماك تسلك سلوكا ذا درجة عالية من التنظيم يتحكم فيه جهاز مركزي يجعل كل سمكة في السرب تغير سرعتها واتجاهها في لحظة واحدة.
فثبات سرب الأسماك الذي قد يربو عدد أفراده على المليون سمكة، والذي يبقى ثابتا يوما بعد يوم على رغم تغير الظروف البيئية المحيطة به يشير بأن هناك عوامل أخرى داخلية في الأسماك، ومن بين هذه الدوافع الغريزة التي تدفع الأسماك أن تتجمع مع أقرانها من النوع نفسه، فالغريزة هي سلوك داخلي تولد به السمكة ولا تتعلمه أو تكتسبه.
وقد لوحظ أن أسماك الطعم الأبيض «الهوايت بيت» والأسماك ذات الجانب الفضي «سيلفر سايد» تبدأ تكوين الأسراب عندما يصل طولها إلى 7 - 01 ملليمترا، وعندما يصل طولها إلى «11 -51 ملليمترا» فأنها تكون أسرابا مثالية يتراوح عدد أفرادها من 03 إلى 05 فردا ثم يتدرج هذا العدد إلى أن يصل إلى أكثر من 01 آلاف سمكة في السرب الواحد.
تعتبر الرؤية من أهم العوامل في تكوين السرب، ولكن ليس هو العامل الوحيد الذي يعمل على تماسك السرب وانتظام أفراده، فهناك عوامل أخرى تتضافر معا في ثبات السرب وتماسكه وهذه العوامل تشمل الحركة والصوت والرائحة والتذوق، فجلد بعض أنواع ا لأسماك يفرز رائحة مميزة له «الفورمونات» التي يكشفها النوع، وتعبر الحركة في الأسماك Degree of Movement عن مدى ارتباط نوع معين من الأسماك بالمكان الذي تعيش فيه ومدى تواجده في هذا المكان حيث يوجد.
أنواع ثابتة: وهي تعيش في مناطق محدودة لا تغادرها وخاصة في الطور اليافع مثل أنواع المحار و الأصداف.
أنواع متوطنة: وهذه الأنواع قادرة على الحركة والتحول ولكنها تفضل البقاء في مناطق صغيرة المساحة وهي في حركتها تقع تحت تأثير عدة عوامل منها:
- حركة يومية: بعض الأسماك ينتقل عموديا ناحية السطح أو يهبط نحو القاع وذلك فيما بين الليل والنهار.
- حركة المد: حيث إن بعض أنواع الأسماك تتجه إلى الشاطئ عند المد ثم تتقهقر تجاه البحر عند الجزر.
- الانتشار العشوائي: بعض الأنواع مثل الاستاكوزا وأسماك موسى تجد نفسها تتحرك أو تنتشر انتشارا عشوائيا بدون اتجاه محدد.
- حركة موسمية: بعض الأسماك المستوطنة تقوم بتحرك موسمي قصير حيث تدخل ا لبحيرات مثلا لتحتمي من برودة ماء البحر أو تتحرك إلى بعض المناطق الباردة صيفا.
- هجرة سنوية: الكثير من أنواع الأسماك يقوم بهجرة سنوية منتظمة للتوالد أو الغذاء وأحيانا لكليهما معا. ومن أمثلتها أسماك العائلة البورية.
المصدر/ مجلة الكويت
موضوع: الهجرة عند الأسماك 
الجمعة مايو 28, 2010 11:22 am
