الضوضاء والضجيج...أخطر أنواع التلوث البيئي على صحة الإنسان
مجلة الكويت
أصبحت قضية تلوث البيئة في مقدمة الموضوعات التي تحظى بكثير من المناقشات في مختلف الدوائر والأوساط العامة والخاصة، لخطورتها على الصحة والاقتصاد، وتأثيرها على قضية التنمية. حتى إن المهتمين بصحة البيئة يطلقون على هذا العصر «عصر التلوث البيئي»، نظراً لانتشار ظاهرة التلوث واختلاف وتعدد وتنوع طبيعتها ومصادرها وأسبابها من مكان لآخر.
يمكننا توضيح «مفهوم التلوث» Concept of Pollution على أنه: «إفساد مكونات البيئة، حيث تتحول هذه المكونات من عناصر مفيدة إلى عناصر ضارة «ملوثات»، بما يفقدها دورها في صنع الحياة». وبعبارة أخرى: «اختلاف في توزيع نسبة وطبيعة مكونات الماء والهواء والتربة».
مفهوم الضوضاء
الضوضاء عنصر مستحدث ينبع من البيئة، يؤثر سلباً على الحالة الصحية العامة للإنسان عضوياً ونفسياً، حيث تضر الضوضاء بالجهاز السمعي والعصبي، وتؤثر على الجهاز الهضمي، وانتظام الدورة النموية، والغدد الصماء، وتزيد من حالة التوتر والإرهاق.
والضوضاء يمكن تعريفها على أنها: «أصوات غير متجانسة، تتجاوز شدتها المعدل الطبيعي المسموح به للأذن، فهي أصوات غير مرغوب فيها نظراً لزيادة حدتها وشدتها وخروجها على المألوف من الأصوات الطبيعية التي اعتاد الناس سماعها».
قياس الضوضاء
تقاس الضوضاء بوحدة تسمى «ديسيبل» Decibel وهي وحدة قياس شدة الصوت «مستوى الضغط السمعي».
وواقع الأمر أنه يتعين أن يكون مستوى الضوضاء أقل من 25 ديسيبل حتى يتمكن الإنسان من النوم والراحة، أما إذا زاد مستوى الضوضاء عن 65 ديسيبل فإن الإنسان لا يستطيع التفكير بتركيز.
العوامل التي يتوقف عليها الضجيج
يتوقف أثر الضجيج على العوامل التالية:
1ـ طول فترة التعرض للضجيج، حيث يزداد تأثير الضجيج كلما زادت مدة التعرض له، كما أن الأصوات العالية والمتقطعة المفاجئة تعد أخطر من الأصوات المستمرة.
2ـ حدة الصوت: حيث تعتبر الأصوات الحادة أكثر تأثيراً من الأصوات الخشنة الغليظة.
3ـ المسافة بين مصدر الصوت والشخص الذي يسمعه: فكلما قلت المسافة، زاد تأثير الصوت على الإنسان.
مصادر الضوضاء
مصادر طبيعية: مثل البراكين والزلازل والرعد والأعاصير وأمواج المياه العالية، وهي كلها مضايقات بيئية تختفي بسرعة باختفاء المؤثر، ومهما طالت مدتها فهي قصيرة إذا ما قورنت بالضوضاء الناتجة بفعل الإنسان.
مصادر غيرطبيعية: مثل: المصانع بمختلف أنواعها، حيث تعتبر الضوضاء الصادرة من آلات المصانع أثناء تشغيلها من أشد أنواع الضوضاء التي قد يتعرض لها الإنسان.
كذلك الضوضاء الصادرة عن القطارات والتي تحدث بسبب الاحتكاك، بين عجلات القطار والقضبان، والصوت الذي يحدثه القطار بسبب مقاومة الهواء.
أما بالنسبة للسيارات فهناك علامة تعجب نطلقها لسائقي السيارات الخاصة والعامة، فبدل أن تكون آلة التنبيه في السيارة للتحذير انقلبت إلى أداة للهو والعبث. كذلك الدراجات النارية «الموتوسيكلات»، فصراخ محركاتها منفر ومزعج للغاية، وغالباً ما يلجأ بعض الأفراد إلى أداء الحركات البهلوانية في الشوارع مما يزيد من تلك الصرخات، علاوة على استخدام آلات التنبيه التي تزيد من شدة الضجيج.
ولا يخفى على أحد أن أكثر الأماكن تأثراً بالضوضاء المنبعثة هي التي تكون قريبة من المطارات، ولقد أشار الدكتور «نويل جونس»، أستاذ علم النفس في جامعة لوس أنجلوس، إلى أن أزيز الطائرات يمكن أن يتلف مخ الجنين ونخاعه الشوكي وبطنه، وغير ذلك من التشوهات الخلقية، وهناك دراسة أخرى تشير إلى أن الضوضاء المفاجئة التي تصدر عن الطائرات يمكن أن تؤدي إلى تدفق الأدرينالين الذي يقلص الأوعية الدموية ويحرم الجنين من الأوكسجين. كما أن أصوات آلات الحفر وضجيج البلدوزرات والجرارات وخلاطات الأسمنت وأصوات المطارق وغيرها ترفع من نسبة حدوث الضوضاء، ولقد أشارت إحصائية أمريكية أن عدد من يتأثرون بهذه الضوضاء الصادرة عن أعمال البناء يصل إلى نحو 15% من سكان الولايات المتحدة. بالإضافة إلى الأجهزة الكهربائية التي تستخدم في المنازل والمكاتب مثل: المكانس والخلاطات والغسالات الكهربائية، وبعض أجهزة التكييف والراديو والتلفزيون، علاوة على الموسيقى الصاخبة ومكبرات الصوت وغيرها.
الآثار السيئة المترتبة
على الضوضاء
1ـ على الأذن والجهاز السمعي:
تسبب المفرقعات والانفجارات المدوية موجات شديدة من التضاغط والتخلخل تؤدي إلى انفجار طبلة الأذن وكذلك حدوث نزيف في الأذن الوسطى بسبب اختلال الضغط داخلها، مما يسبب حدوث صمم توصيلي في الحال Conductive deafness.
وتسبب أصوات المفرقعات أيضاً حدوث انفجار في الغشاء المغطي للفتحة الدائرية Round window في القوقعة، وكذلك تلف في أغشية القوعة الأخرى، مما ينتج عنه الصمم العصبي الدائم Nerve deafness.
أما الضوضاء اليومية المستمرة فإنها تقلق العصب السمعي، وتسبب له ما يشبه الكدمات نتيجة الإزعاج المستمر لخلايا هذا العصب مما يؤدي إلى ضعف مستديم في السمع لا يستطيع معه الإنسان سماع الحديث الهادئ منخفض الشدة.
هذا، وقد جاء في تقرير للمعهد الطبي بمدينة «ليدز» بإنجلترا أن الكثير من الشباب هناك فقدوا نحو 04% من سمعهم بسبب ارتيادهم حانات اللهو، حيث الموسيقى الصاخبة «الروك» التي لا تتوقف حتى الفجر، ومع ذلك يواصلون ارتياد تلك الملاهي مع ما يهددهم بفقدان 60% من قدراتهم السمعية بحيث لا يسمعون طرق الباب، ولا أجراس التليفون ولا نداءات الإنذار والتحذير.
2ـ على الصحة العامة:
الضوضاء الشديدة ترفع من ضغط الدم وتؤثر على الأوعية الدموية الصغيرة في القلب وتؤدي إلى انقباضها مما يؤدي إلى الشعور بالصداع.
ولقد ذهب بعض الأطباء إلى أن الأصوات المرتفعة قد تؤدي إلى الوفاة اختناقاً بالنسبة لمرضى القلب والقولون العصبي. وأضاف الأطباء أن هذا النوع من التلوث يزيد من تفاقم قرحة المعدة والاثنى عشر حيث تفرز المعدة الحساسة والجهاز العصبي المرهف حمضاً لمواجهة سماع هذه الأصوات.
وأيضاً تحدث انقباضات في جدار الأمعاء ويزداد القولون انتفاخاً إلى حد أنه يضغط على الحجاب الحاجز محدثاً اختناقات مفاجئة ربما تنتهي بالموت المفاجئ دون مقدمات.
كما ثبت أن الضوضاء فرضت تغييراً واضحــــاً فــــي جســم العيـــــن الداخلية.
3ـ على القلب والدورة الدموية:
لقد تأكد أن الضوضاء حتى ولو كانت في درجة ضعيفة فهي تسبب انقباض الأوعية الدموية، فبعد ثلاث ثوان بالضبط من ابتداء ضوضاء درجتها 87 ديسيبل تنكمش الشرايين الصغيرة وينقص حجم الدماء داخلها، وعندما تتوقف الضوضاء تحتاج هذه الأوعية الصغيرة إلى خمس دقائق كي تعود إلى سيرتها الأولى.
وقد تبين خلال دراسة أجريت في كلية الطب بجامعة «ميامي» حول ارتباط الضجيج بارتفاع ضغط الدم، وذلك على بعض القرود المخبرية، فقد دلت الدراسة على أن تلك القرود أصيبت بارتفاع مستمر لضغط الدم بعد تعرضها لمدة تسعة أشهر إلى أشكال ومستويات معينة بالضجيج شبيهة بالأشكال والمستويات التي يصادفها الإنسان بين حين وآخر في حياته اليومية.
4ـ على الجهاز العصبي:
تمتد تأثيرات الضجيج إلى قشرة المخ وتؤدي إلى تسطح أخاديده الدقيقة وهي مركز الذاكرة في المخ مما يؤدي إلى فقدان الذاكرة بشكل تدريجي، كما يصبح الجسم أقل مقاومة للأمراض وخاصة العصبية منها. كما أن الوضع العصبي/ النفسي اللذين يسببهما الضجيج يؤديان إلى مضاعفات خطيرة كالذبحة الصدرية، وخاصة الانفجارات التي تزيد شدتها عن 140 ديسيبل.
وفي دراسة مثيرة أجراها علماء من جامعة «وسكونستين» تبين أن الضجيج المنزلي الناشئ عن كثرة الجدل والصراخ وعن مراوح التهوية والخلاطات والغسالات الكهربائية ومسنات السكاكين، هذا الضجيج يزيد من عوامل الاستثارة في الجسم، ويخلق التوتر العصبي العام ويؤدي إلى نشوب منازعات عائلية.
5ـ على الحالة النفسية للفرد:
هناك بعض التغيرات النفسية التي تنشأ من التعرض لفترات طويلة للتلوث الضوضائي ومنها ما يسمى بالتقلب المزاجي الذي يصيب الناس في العصر الحاضر، وهذا ما يفسر ما يعتريهم الآن من قلق وتوتر واضطراب عصبي والإحساس المتزايد بعدم الراحة والكفاءة، ولا تزول هذه الأعراض إلا بالابتعاد عن مصدر التلوث الصوتي.
كما تبين أن المصابين بالاكتئاب هم أكثر الناس حساسية للضوضاء، هذا وتؤكد الإحصاءات أن خمس المصابين بالأمراض النفسية في فرنسا هم ضحية الضجيج، بينما ثلث النساء، وربع الرجال في إنجلترا يصابون بالعصاب للسبب نفسه.
6ـ على العمل والإنتاج:
يؤثر التلوث الضوضائي على إنتاج العاملين في المصانع والورش نظراً لما يسببه لهم من حالات الصداع، أو عدم القدرة على التركيز، أو من الانفعال الزائد والعصبية.
وقد أجرت إحدى الشركات الأمريكية دراسة مقارنة استغرقت عاماً كاملاً، وكان الهدف من إجرائها هو التعرف على تأثير الضوضاء على مقدرة الإنسان وكفاءته في إنجاز الأعمال الذهنية. وقد تبين من هذه الدراسة أن الكفاءة تقل في ظروف جول العمل الصاخب عنها في حالة وجود مستوى منخفض من الضوضاء، وبعد أن قامت هذه الشركة باستخدام أساليب هندسية لكسوة الجدران بمواد عازلة تساعد على امتصاص الصوت، توصلت إلى النتائج التالية:
ـ انخفاض معدل الأخطاء الحسابية بنسبة 25%.
ـ انخفاض معدل الأخطاء في النسخ على الآلة الكاتبة بنسبة 27%.
وتتشابه نتائج هذه الدراسة مع تجارب علمية نفسية قام بها العالم البريطاني «هـ.س.وستون» أوضح فيها أن كفاءة النساجين البريطانيين قد ازدادت بمعدل 12% في الإنتاج عندما وضعوا سدادات الأذن في سمعهم.
7ـ على طلاب المدارس:
نشرت في أمريكا دراسة تؤكد أن ضغط الدم عند أطفال المدارس الواقعة بالقرب من مطار لوس أنجلوس أعلى منه لأطفال المدارس البعيدة عن المطار، وسرعتهم في حل المسائل الرياضية أقل، وعند إخفاقهم في حل تلك المسائل سرعان ما يرمونها جانباً ولا يحاولون إعادة حلها مرة أخرى.
8ـ على الأطفال:
في فرنسا أجريت بعض الدراسات التي لوحظ من بعضها أن الأطفال الذين لا تزيد أعمارهم على ست سنوات، شديدو الحساسية للضوضاء وينزعجون منها انزعاجاً شديداً، وقد ينخرط بعضهم في البكاء عند سماعه للأصوات المرتفعة. كما أوضحت هذه الدراسة أن الضوضاء تؤثر كثيراً في مدى تقبلهم لما يتلقونه مــــن معلومات.
9ـ على الحيوانات والطيور:
امتدت تأثيرات الضجيج لكل من الحيوانات والطيور، فعندما وضعت بعض الحيوانات تحت تأثير صوت مرتفع بلغت شدته 170 ديسيبل، ماتت بعد عشر دقائق، وعندما وضعت تحت تأثير صوت شدته 130 ديسيبل ماتت بعد أربع ساعات فقط.
كما تؤثر الضوضاء على الدواجن وتسبب انخفاضاً في كمية البيض عندها، كذلك يؤثر ضجيج الطائرات النفاثة وبالأخص عندما تخترق حاجز الصوت على الطيور ويسبب موت صغارها.
وقد اكتشف العلماء الفرنسيون كذلك تأثير ضوضاء الطائرات على النحل حيث يفتقد مؤقتاً إحساسه بالمكان ويتوقف عن العمل.
أهم الاقتراحات لمكافحة التلوث الضوضائي:
ـ نشر الوعي البيئى عن طريق وسائل الإعلام المختلفة لتعريف المواطنين بأضرار الضجيج وآثاره على الصحة العامة خاصة على صحة الأطفال، ونموهم الفكري والجسدي بحيث يدرك الناس أن الفضاء الصوتي ليس ملكاً شخصياً وإنما هو ملكية عامة.
ـ تخطيط المدن على أسس حديثة تقلل من الضجيج وتنظيم حركة السير داخلها، بحيث تكون الشوارع واسعة بدرجة كافية وأن يكون هناك تناسق بين عرض الشارع وارتفاعات المباني على جانبيه، وتشجير الشوارع لما للشجر من قدرة على تشتيت الصوت، ومن المفضل الإكثار من الشوارع الفرعية للتخفيف من حدة ازدحام الشوارع الرئيسة، وكذلك يتوجب وجود حدائق وأماكن للراحة داخل المدينة لأن هذا الغطاء النباتي ضرورةي للغاية لحماية السكان من التلوث بالضجيج، حيث إن الأشجار تمتص نسبة كبيرة من طاقة الصوت.
- إبعاد المدارس والمستشفيات عن مصادر الضجيج وخاصة الطرق العامة المزدحمة بالسيارات.
ـ استخدام المواد العازلة للصوت بقدر الإمكان في عملية بناء مساكن المدينة والمدارس والمستشفيات ومكاتب العمل، واستخدام الزجاج العازل في المنازل «الزجاج المزدوج» ويمكن لهذه التقانة أن تقلل من شدة الصوت بحوالي 40 ديسيبل.
ـ منع استعمال منبهات السيارات داخل المدينة وخاصة بعد الساعة العاشرة ليلاً وحتى الساعة السابعة صباحاً ومراقبة حركتها، وإيقاف تلك المصدرة للأصوات العالية والعمل على منع مرور السيارات الكبيرة داخل المدينة، مع مراقبة السيارات القديمة والشاحنات التي تصدر قدرة صوتية تفوق من 10 ـ 100 مرة ما تصدره السيارات العادية.
ـ بناء المطارات بعيداً عن المدن السكنية لتفادي الأصوات العالية، وإنتاج طائرات بلا ضجيج مثل طائرة «D.C.8» العادية حيث لا يسمع لها صوت، فالواقع أن الماكينة التوربينية المروحية الجديدة فيها تخفض من درجة ضوضاء المطار بنسبة 70% على حد زعم الشركة المنتجة للطائرة.
ـ يجب اتخاذ جميع الإجراءات لخفض مستوى الضوضاء خاصة في المصانع التي ترتفع فيها الضوضاء عن الحد العادي، كما يجب حماية الإنسان الذي يعمل في مثل هذه الأماكن وذلك بتقليل ساعات العمل، أو نقل العامل إلى عمل آخر بعد فترة معينة من الوقت.
وفي هذا الإطار لجأت الدول المتقدمة إلى تطوير الماكينات والأجهزة الصناعية بل والسيارات والقطارات بحيث تعمل بدون ضوضاء، بجانب إقامة الحوائط العازلة للصوت في أماكن العمل، بحيث يعمل العامل في مكان هادئ بل وضعت الموسيقى الهادئة في بعض المصانع الأوروبية وقد زاد الإنتاج بعد إدخال هذا التطور.