غزوة الخندق
عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء لثمان مضت من ذي القعدة فحاصروه خمس عشرة وانصرف يوم الأربعاء لسبع بقين سنة خمس واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم .
فحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبيه وربيعة بن عثمان ومحمد عن الزهري ، وعبد الصمد بن محمد ويونس بن محمد الظفري ، وعبد الله بن جعفر ، ويحيى بن عبد الله بن أبي قتادة ، وابن أبي سبرة وعبد الحميد بن جعفر ومعمر بن راشد وحزام بن هشام ومحمد بن يحيى بن سهل وأيوب بن النعمان بن عبد الله بن كعب بن مالك ، وموسى بن عبيدة وقدامة بن موسى ، وعائذ بن يحيى الزرقي ، ومحمد بن صالح وعبد الرحمن بن عبد العزيز وهشام بن سعد ، ومجمع بن يعقوب ، وأبو معشر والضحاك بن عثمان ، وعبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر ، وابن أبي حبيبة وابن أبي الزناد وأسامة بن زيد فكل قد حدثني من هذا الحديث بطائفة وبعضهم أوعى له من بعض وغير هؤلاء قد حدثني ، فكتبت كل ما حدثوني ، قالوا : لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ساروا إلى خيبر ، وكان بها من اليهود قوم أهل عدد وجلد وليست لهم من البيوت والأحساب ما لبني النضير - كان بنو النضير سرهم وقريظة من ولد الكاهن من بني هارون - فلما قدموا خيبر خرج حيي بن أخطب ، وكنانة بن أبي الحقيق ، وهوذة بن الحقيق وهوذة بن قيس الوائلي من الأوس من بني خطمة وأبو عامر الراهب في بضعة عشر رجلا إلى مكة يدعون قريشا وأتباعها إلى حرب محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا لقريش : نحن معكم حتى نستأصل محمدا .
قال أبو سفيان هذا الذي أقدمكم ونزعكم ؟ قالوا : نعم جئنا لنحالفكم على عداوة محمد وقتاله . قال أبو سفيان مرحبا وأهلا ، أحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد . قال النفر فأخرج خمسين رجلا من بطون قريش كلها أنت فيهم وندخل نحن وأنتم بين أستار الكعبة حتى نلصق أكبادنا بها ، ثم نحلف بالله جميعا لا يخذل بعضنا بعضا ، ولتكونن كلمتنا واحدة على هذا الرجل ما بقي منا رجل .
ففعلوا فتحالفوا على ذلك وتعاقدوا ، ثم قالت قريش بعضها لبعض قد جاءكم رؤساء أهل يثرب وأهل العلم والكتاب الأول فسلوهم عما نحن عليه ومحمد أينا أهدى ؟ قالت قريش : نعم . فقال أبو سفيان يا معشر اليهود ، أنتم أهل الكتاب الأول والعلم أخبرونا عما أصبحنا نحن فيه ومحمد ديننا خير أم دين محمد ؟ فنحن عمار البيت وننحر الكوم ونسقي الحجيج ونعبد الأصنام . قالوا : اللهم أنتم أولى بالحق منه إنكم لتعظمون هذا البيت وتقومون على السقاية وتنحرون البدن وتعبدون ما كان عليه آباؤكم فأنتم أولى بالحق منه . فأنزل الله تعالى في ذلك ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا فاتعدوا لوقت وقتوه فقال صفوان بن أمية : يا معشر قريش ، إنكم قد وعدتم هؤلاء القوم لهذا الوقت وفارقوكم عليه ففوا لهم به لا يكون هذا كما كان وعدنا محمدا بدر الصفراء فلم نف بموعده واجترأ علينا بذلك وقد كنت كارها لميعاد أبي سفيان يومئذ . فخرجت اليهود حتى أتت غطفان ، وأخذت قريش في الجهاز وسيرت في العرب تدعوهم إلى نصرها ، وألبوا أحابيشهم ومن تبعهم . ثم خرجت اليهود حتى جاءوا بني سليم فوعدوهم يخرجون معهم إذا سارت قريش . ثم ساروا في غطفان ، فجعلوا لهم تمر خيبر سنة وينصرونهم ويسيرون مع قريش إلى محمد إذا ساروا . فأنعمت بذلك غطفان ، ولم يكن أحد أسرع إلى ذلك من عيينة بن حصن . وخرجت قريش ومن تبعها من أحابيشها أربعة آلاف وعقدوا اللواء في دار الندوة ، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس وكان معهم من الظهر ألف بعير وخمسمائة بعير .
وأقبلت سليم فلاقوهم بمر الظهران ، وبنو سليم يومئذ سبعمائة يقودهم سفيان بن عبد شمس حليف حرب بن أمية ، وهو أبو أبي الأعور الذي كان مع معاوية بن أبي سفيان بصفين . وخرجت قريش يقودها أبو سفيان بن حرب ، وخرجت بنو أسد وقائدها طلحة بن خويلد الأسدي وخرجت بنو فزارة وأوعبت وهم ألف يقودهم عيينة بن حصن وخرجت أشجع وقائدها مسعود بن رخيلة وهم أربعمائة - لم توعب أشجع . وخرج الحارث بن عوف يقود قومه بني مرة وهم أربعمائة . لما أجمعت غطفان السير أبى الحارث بن عوف المسير وقال لقومه تفرقوا في بلادكم ولا تسيروا إلى محمد فإني أرى أن محمدا أمره ظاهر لو ناوأه من بين المشرق والمغرب لكانت له العاقبة . فتفرقوا في بلادهم ولم يحضر واحد منهم وهكذا روى الزهري وروت بنو مرة .
حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، وعاصم بن عمر بن قتادة قالا : شهدت بنو مرة الخندق وهم أربعمائة وقائدهم الحارث بن عوف المري ، وهجاه حسان وأنشد شعرا ، وذكروا مجاورة النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ . فكان هذا أثبت عندنا أنه شهد الخندق في قومه ولكنه كان أمثل تقية من عيينة . قالوا : وكان القوم جميعا الذين وافوا الخندق من قريش ، وسليم وغطفان ، وأسد ، عشرة آلاف فهي عساكر ثلاثة وعناج الأمر إلى أبي سفيان . فأقبلوا فنزلت قريش برومة ووادي العقيق في أحابيشها ومن ضوى إليها من العرب ، وأقبلت غطفان في قادتها حتى نزلوا بالزغابة إلى جانب أحد .
وجعلت قريش تسرح ركابها في وادي العقيق في عضاهه وليس هناك شيء للخيل إلا ما حملوه معهم من علف - وكان علفهم الذرة - وسرحت غطفان إبلها إلى الغابة في أثلها وطرفائها في عضاه الجرف . وقدموا في زمان ليس في العرض زرع فقد حصد الناس قبل ذلك بشهر فأدخلوا حصادهم وأتبانهم . وكانت غطفان ترسل خيلها في أثر الحصاد - وكان خيل غطفان ثلاثمائة - بالعرض فيمسك ذلك من خيلهم وكادت إبلهم تهلك من الهزال . وكانت المدينة ليالي قدموا جديبة .
فلما فصلت قريش من مكة إلى المدينة خرج ركب من خزاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بفصول قريش ، فساروا من مكة إلى المدينة أربعا ، فذلك حين ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وأخبرهم خبر عدوهم وشاورهم في أمرهم بالجد والجهاد ووعدهم النصر إن هم صبروا واتقوا ، وأمرهم بطاعة الله وطاعة رسوله . وشاورهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله يكثر مشاورتهم في الحرب فقال أنبرز لهم من المدينة ، أم نكون فيها ونخندقها علينا ، أم نكون قريبا ونجعل ظهورنا إلى هذا الجبل ؟ فاختلفوا ، فقالت طائفة نكون مما يلي بعاث إلى ثنية الوداع إلى الجرف . فقال قائل ندع المدينة خلوفا فقال سلمان يا رسول الله إنا إذ كنا بأرض فارس وتخوفنا الخيل خندقنا علينا ، فهل لك يا رسول الله أن نخندق ؟ فأعجب رأي سلمان المسلمين وذكروا حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد أن يقيموا ولا يخرجوا ، فكره المسلمون الخروج وأحبوا الثبات في المدينة .
فحدثني أبو بكر بن أبي سبرة قال حدثني أبو بكر بن عبد الله بن جهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرسا له ومعه نفر من أصحابه من المهاجرين والأنصار ، فارتاد موضعا ينزله فكان أعجب المنازل إليه أن يجعل سلعا خلف ظهره ويخندق من المذاد إلى ذباب إلى راتج . فعمل يومئذ في الخندق ، وندب الناس فخبرهم بدنو عدوهم وعسكرهم إلى سفح سلع ، وجعل المسلمون يعملون مستعجلين يبادرون قدوم العدو عليهم وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل معهم في الخندق لينشط المسلمين وعملوا ، واستعاروا من بني قريظة آلة كثيرة من مساحي ، وكرازين ومكاتل يحفرون به الخندق - وهم يومئذ سلم للنبي صلى الله عليه وسلم يكرهون قدوم قريش . ووكل رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل جانب من الخندق قوما يحفرونه فكان المهاجرون يحفرون من جانب راتج إلى ذباب ، وكانت الأنصار تحفر من ذباب إلى جبل بني عبيد ، وكان سائر المدينة مشبكا بالبنيان .
فحدثني محمد بن يحيى بن سهل عن أبيه عن جده قال كنت أنظر إلى المسلمين والشباب ينقلون التراب والخندق بسطة أو نحوها ، وكان المهاجرون والأنصار ينقلون على رءوسهم في المكاتل وكانوا إذا رجعوا بالمكاتل جعلوا فيها الحجارة يأتون بها من جبل سلع ، وكانوا يجعلون التراب مما يلي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكان يسطرون الحجارة مما يليهم كأنها حبال التمر - وكانت الحجارة من أعظم سلاحهم يرمونهم
بها .
فحدثني ابن أبي سبرة عن مروان بن أبي سعيد قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يحمل التراب في المكاتل ويطرحه والقوم يرتجزون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
هذا الجمال لا جمال خيبر
هذا أبر ربنا وأطهر
وجعل المسلمون يومئذ إذا رأوا من الرجل فتورا ضحكوا منه . وتنافس الناس يومئذ في سلمان الفارسي ، فقال المهاجرون : سلمان منا وكان قويا عارفا بحفر الخنادق . وقالت الأنصار : هو منا ونحن أحق به فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم فقال سلمان رجل منا أهل البيت ولقد كان يومئذ يعمل عمل عشرة رجال حتى عانه يومئذ قيس بن أبي صعصعة ، فلبط به فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مروه فليتوضأ له وليغتسل به ويكفئ الإناء خلفه . ففعل فكأنما حل من عقال .
فحدثني ابن أبي سبرة عن الفضيل بن مبشر قال سمعت جابر بن عبد الله يقول لقد كنت أرى سلمان يومئذ وقد جعلوا له خمسة أذرع طولا وخمسا في الأرض فما تحينته حتى فرغ وحده وهو يقول
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة
وحدثني أيوب بن النعمان عن أبيه عن جده عن كعب بن مالك قال جعلنا يوم الخندق نرتجز ونحفر وكنا - بني سلمة - ناحية فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ألا أقول شيئا ، فقلت : هل عزم على غيري ؟ قالوا : حسان بن ثابت . قال فعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نهانا لوجدنا له وقلته على غيرنا ، فما تكلمت بحرف حتى فرغنا من الخندق . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ لا يغضب أحد مما قال صاحبه لا يريد بذلك سوءا ، إلا ما قال كعب وحسان فإنهما يجدان ذلك .
وحدثني يحيى بن عبد العزيز عن عاصم بن عمر بن قتادة ، قال كان جعيل بن سراقة رجلا صالحا ، وكان ذميما قبيحا ، وكان يعمل مع المسلمين يومئذ في الخندق ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غير اسمه يومئذ فسماه عمرا ، فجعل المسلمون يرتجزون ويقولون
سماه من بعد جعيل عمرا
وكان للبائس يوما ظهرا
قال فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول من ذلك شيئا إلا أن يقول " عمرا " .
فبينا المسلمون يحفرون وكان زيد بن ثابت فيمن ينقل التراب مع المسلمين فنظر إليه سعد بن معاذ وهو جالس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحمد لله يا رسول الله الذي أبقاني حتى آمنت بك ; إني عانقت أبا هذا يوم بعاث ، ثابت بن الضحاك ، فكانت اللبجة به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنه نعم الغلام وكان زيد بن ثابت قد رقد في الخندق ، غلبته عيناه حتى أخذ سلاحه وهو لا يشعر وهو في قر شديد - ترسه وقوسه وسيفه - وهو على شفير الخندق مع المسلمين فانكشف المسلمون يريدون يطيفون بالخندق ويحرسونه وتركوا زيدا نائما ، ولا يشعرون به حتى جاءه عمارة بن حزم فأخذ سلاحه ولا يشعر حتى فزع بعد فقد سلاحه حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا زيدا فقال يا أبا رقاد نمت حتى ذهب سلاحك ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من له علم بسلاح هذا الغلام ؟ فقال عمارة بن حزم : أنا يا رسول الله وهو عندي . فقال فرده عليه ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يروع المسلم أو يؤخذ متاعه لاعبا جادا . حدثني علي بن عيسى ، عن أبيه قال ما كان في المسلمين يومئذ أحد إلا يحفر في الخندق أو ينقل التراب ولقد رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وعمر - وكان أبو بكر وعمر لا يتفرقان في عمل ولا مسير ولا منزل - ينقلان التراب في ثيابهما يومئذ من العجلة إذ لم يجدا مكاتل لعجلة المسلمين .
وكان البراء بن عازب يقول ما رأيت أحدا أحسن في حلة حمراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان أبيض شديد البياض ، كثير الشعر يضرب الشعر منكبيه . ولقد رأيته يومئذ يحمل التراب على ظهره حتى حال الغبار بيني وبينه وإني لأنظر إلى بياض بطنه .
وقال أبو سعيد الخدري : لكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحفر في الخندق مع المسلمين والتراب على صدره وبين عكنه وإنه ليقول
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
يردد ذلك .
وحدثني أبي بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، فأخذ الكرزن وضرب به رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرا فصل الحجر ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل يا رسول الله مم تضحك ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحك من قوم يؤتى بهم من المشرق في الكبول يساقون إلى الجنة وهم كارهون
فحدثني عاصم بن عبد الله الحكمي ، عن عمر بن الحكم قال كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب يومئذ بالمعول فصادف حجرا صلدا ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه المعول وهو عند جبل بني عبيد ، فضرب ضربة فذهبت أولها برقة إلى اليمن ، ثم ضرب أخرى فذهبت برقة إلى الشام ، ثم ضرب أخرى فذهبت برقة نحو المشرق وكسر الحجر عند الثالثة . فكان عمر بن الخطاب يقول والذي بعثه بالحق لصار كأنه سهلة وكان كلما ضرب ضربة يتبعه سلمان ببصره فيبصر عند كل ضربة برقة فقال سلمان يا رسول الله رأيت المعول كلما ضربت به أضاء ما تحته . فقال أليس قد رأيت ذلك ؟ قال نعم . قال النبي صلى الله عليه وسلم إني رأيت في الأولى قصور الشام ، ثم رأيت في الثانية قصور اليمن ، ورأيت في الثالثة قصر كسرى الأبيض بالمدائن . وجعل يصفه لسلمان فقال صدقت والذي بعثك بالحق إن هذه لصفته وأشهد أنك لرسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه فتوح يفتحها الله عليكم بعدي يا سلمان لتفتحن الشام ، ويهرب هرقل إلى أقصى مملكته وتظهرون على الشام فلا ينازعكم أحد ، ولتفتحن اليمن ، وليفتحن هذا المشرق ويقتل كسرى بعده . قال سلمان فكل هذا قد رأيت .
قالوا : وكان الخندق ما بين جبل بني عبيد بخربى إلى راتج ، فكان للمهاجرين من ذباب إلى راتج ، وكان للأنصار ما بين ذباب إلى خربى ، فهذا الذي حفر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وشبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية وهي كالحصن . وخندقت بنو عبد الأشهل عليها فيما يلي راتج إلى خلفها ، حتى جاء الخندق من وراء المسجد وخندقت بنو دينار من عند خربى إلى موضع دار ابن أبي الجنوب اليوم . ورفع المسلمون النساء والصبيان في الآطام ورفعت بنو حارثة الذراري في أطمهم وكان أطما منيعا ، وكانت عائشة يومئذ فيه . ورفع بنو عمرو بن عوف النساء والذرية في الآطام وخندق بعضهم حول الآطام بقباء وحصن بنو عمرو بن عوف ولفها ، وخطمة وبنو أمية ، ووائل وواقف فكان ذراريهم في آطامهم .
فحدثني عبد الرحمن بن أبجر عن صالح بن أبي حسان قال أخبرني شيوخ بني واقف أنهم حدثوه أن بني واقف جعلوا ذراريهم ونساءهم في أطمهم وكانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يتعاهدون أهليهم بأنصاف النهار بإذن النبي صلى الله عليه وسلم فينهاهم النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ألحوا أمرهم أن يأخذوا السلاح خوفا عليهم من بني قريظة . فكان هلال بن أمية يقول أقبلت في نفر من قومي وبني عمرو بن عوف ، وقد نكبنا عن الجسر وصفنة فأخذنا على قباء ، حتى إذا كنا بعوس إذا نفر منهم فيهم نباش بن قيس القرظي ، فنضحونا بالنبل ساعة ورميناهم بالنبل وكانت بيننا جراحة ثم انكشفوا على حاميتهم ورجعنا إلى أهلنا ، فلم نر لهم جمعا بعد .
وحدثني أفلح بن سعيد عن محمد بن كعب قال كان الخندق الذي خندق رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين جبل بني عبيد إلى راتج وهذا أثبت الأحاديث عندنا . وذكروا أن الخندق له أبواب فلسنا ندري أين موضعها . فحدثني محمد بن زياد بن أبي هنيدة عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن جابر بن عبد الله ، قال أصاب الناس كدية يوم الخندق فضربوا فيها بمعاولهم حتى انكسرت فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بماء فصبه عليها فعادت كثيبا . قال جابر بن عبد الله : فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفر ورأيته خميصا ، ورأيت بين عكنه الغبار فأتيت امرأتي فأخبرتها ما رأيت من خمص بطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت والله ما عندنا شيء إلا هذه الشاة ومد من شعير . قال جابر فاطحني وأصلحي . قالت فطبخنا بعضها وشوينا بعضها ، وخبز الشعير . [ قال جابر ] : ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فمكثت حتى رأيت أن الطعام قد بلغ فقلت : يا رسول الله قد صنعت لك طعاما فأت أنت ومن أحببت من أصحابك . فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه في أصابعي ، ثم قال أجيبوا ، جابر يدعوكم فأقبلوا معه فقلت : والله إنها الفضيحة فأتيت المرأة فأخبرتها فقالت أنت دعوتهم أو هو دعاهم ؟ فقلت : بل هو دعاهم قالت دعهم هو أعلم . قال فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه فكانوا فرقا ، عشرة عشرة ثم قال لنا : اغرفوا وغطوا البرمة وأخرجوا من التنور الخبز ثم غطوه . ففعلنا فجعلنا نغرف ونغطي البرمة ثم نفتحها ، فما نراها نقصت شيئا ، ونخرج الخبز من التنور ثم نغطيه فما نراه ينقص شيئا . فأكلوا حتى شبعوا ، وأكلنا وأهدينا ، فعمل الناس يومئذ كلهم والنبي صلى الله عليه وسلم . وجعلت الأنصار ترتجز وتقول
نحن الذين بايعوا محمدا
على الجهاد ما بقينا أبدا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم
اللهم لا خير إلا خير الآخره
فاغفر للأنصار والمهاجره