الخلية التي أنجبها الكمبيوتر
قفزة علمية.. أم تلاعب غير مسئول بالحياة؟
«فريق من العلماء الأمريكيين نجح في إنتاج أول خلية حية قادرة على التكاثر يتحكم فيها كلية حمض نووي (دي إن إيه DNA) مصنع بالكامل».. نبأ علمي تصدر نشرات الأخبار واهتز له العالم.. البعض تعامل مع الإنجاز باعتباره قفزة علمية هائلة تبشر بتخليق كائنات مجهرية قادرة على إنتاج طاقة بديلة أو تنظيف البيئة أو تقديم خدمات طبية للبشر.. بينما اعتبره البعض الآخر تلاعبا غير مسئول بالحياة استنادا إلى أن إطلاق كائنات حية جديدة في البيئة يمكن أن يتسبب بالضرر أكثر مما قد يجلب من فوائد.
وقد قام علماء الفريق باستخدام الكمبيوتر لبناء «برنامج جيني» للبكتريا ثم زرعوه في خلية مفرغة. وعلى إثرها، اكتسب الميكروب الناتج شكل وسلوك «النوع» الذي أملاه عليه الدي إن إيه الاصطناعي.
وقد حظي هذا الإنجاز العلمي، الذي نشرت تفاصيله في مجلة ساينس العلمية الذائعة الصيت، بإشادة واسعة باعتباره علامة فارقة في تاريخ العلم، لكن منتقديه أعربوا عن تخوفهم وقالوا إن هناك مخاطر تشكلها الكائنات الاصطناعية؛ بينما ذهب البعض إلى أن هناك مبالغات في تقدير المنافع المحتملة لهذه التكنولوجيا.
لكن فريق العلماء يأمل في نهاية المطاف في تصميم خلايا بكتيرية قادرة على إنتاج الأدوية والوقود وحتى امتصاص غازات الاحتباس الحراري.
وقاد فريق العلماء البروفيسور كريج فنتر، مدير «معهد جي كريج فينتر» (JCVI) في ميريلاند بولاية كاليفورنيا الأمريكية. وكان فنتر وزملاؤه قد نجحوا من قبل في بناء جينوم بكتيري مصنع بالكامل ثم نقلوا هذا الجينوم لاحقا من بكتيريا إلى بكتيريا أخرى. والآن، جمع العلماء بين الطريقتين، لإنتاج ما أسموه «خلية اصطناعية»، مع أن جينومها فقط هو الاصطناعي بالكامل.
وضم فريق العلماء، إلى جانب فنتر، عالم البيولوجيا الشهير كلايد هاتشسون، وحامل جائزة نوبل هاملتون سميث و21 من أبرز العلماء الأمريكيين.
وشبه فينتر التقدم الذي تحقق بصناعة برنامج جديد للخلية. وكان العلماء قد قاموا بنسخ جينوم بكتيري موجود بالفعل في الحياة. ثم قاموا بتفكيك تسلسل شيفرته الوراثية. بعد ذلك، ربطوا شيفرة الجينوم بشكل متسلسل، واستخدموا «آلات تصنيع» لإنتاج نسخة جديدة بطريقة كيميائية.
ويأمل العلماء في نهاية المطاف بأن يتمكنوا من تصميم خلايا بكتيرية تتمكن من إنتاج أدوية ووقود، وتقوم حتى بامتصاص الغازات المسببة للاحتباس الحراري.
ويقول فنتر: «أصبح بوسعنا الآن أخذ الكروموسوم (الصبغي chromosome) الاصطناعي الذي بنيناه وزرعه داخل خلية مستقبِلة، أي في كائن حي آخر».
وأضاف فنتر: «وحالما يتم إدخال البرنامج الجديد في الخلية، فإن تلك الخلية تقوم بقراءته وتتحول إلى النوع الذي تحدده تلك الشيفرة الوراثية».
وقد قامت البكتريا الجديدة بالانقسام والتكاثر أكثر من مليار مرة، منتجة بذلك نسخا تحتوي على - ويتحكم فيها تماما - الـ«دي إن إيه» الجديد الذي بناه العلماء.
وقال الدكتور فنتر: «هذه هي المرة الأولى التي يكون فيها أي حمض نووي اصطناعي في وضع السيطرة الكاملة على الخلية والتحكم بها».
ويحدو الدكتور فينتر وزملاءه الأمل من أن يتمكنوا في نهاية المطاف من تصميم وإنتاج بكتريا جديدة قادرة على أداء وظائف نافعة ومفيدة. وقد علَّق الدكتور فينتر على ذلك قائلا: «أعتقد أنهم قد يحدثون ثورة صناعية جديدة».
ويضيف: «إن كان بمقدورنا فعلا الحصول على خلايا تقوم بإنتاج ما نريد، فقد تساعدنا على الإقلاع عن استخدام النفط وعلى إصلاح الضرر والأذى الذي ألحقناه بالبيئة، وذلك عبر امتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون وتجميعه».
ويتعاون البروفيسور فنتر وزملاؤه بالفعل حاليا مع شركات أدوية وشركات وقود من أجل تصميم وتطوير لقاحات جديدة ومورِّثات لبكتريا تكون قادرة على إنتاج وقود مفيد.
لكن المنتقدين يقولون إن الفوائد الممكنة والمرجوة من الكائنات الاصطناعية المنتجة مبالغ فيها. وقالت الدكتورة هيلين ووليس من مؤسسة جينيتشووتش يو كي (وهي منظمة بريطانية تعنى بمراقبة ورصد التطورات في مجال تقنيات الجينات): «إن البكتريا الاصطناعية قد تكون خطرة. فأنت إذا أطلقت كائنات حية جديدة في البيئة، فيمكن أن تتسبب بالضرر أكثر مما قد تجلب من فوائد».
وأضافت: «بإطلاقك إيَّاها (أي الكائنات الحية الجديدة) في مناطق التلوث (بغرض تنظيفها)، فأنت في الواقع تطلق نوعا جديدا من التلوث. فنحن لا نعرف كيف ستتصرف تلك الكائنات في البيئة».
واتهمت الدكتورة ووليس الدكتور فينتر بالتقليل من المخاطر والعيوب المحتمل أن تخلَّفها الكائنات التي يعكف وفريقه على إنتاجها.
وأضافت: «إنه ليس الله. في الواقع هو إنسان جدا، يحاول الحصول على الأموال المستثمرة في تكنولوجيته وتجنب القوانين التي من شأنها أن تحد من استخدامها».
لكن الدكتور فنتر يقول إنه «يقود المناقشات» حول القوانين التي تنظم هذا الحقل العلمي الجديد نسبيا وحول التداعيات الأخلاقية للعمل.
ويضيف: «في العام 2003، عندما أنتجنا أول فيروس اصطناعي، خضع لمراجعة أخلاقية شاملة على كل المستويات وصلت حتى إلى البيت الأبيض».
و«كانت هناك مراجعات واسعة النطاق، بما في ذلك من الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة، التي قدمت بالفعل تقريرا شاملا عن هذا الميدان الجديد. ونحن نعتقد أنها قضايا مهمة، ونحث على مواصلة النقاش الذي نريد للمشاركة فيه».
مناقشات أخلاقية
ويقول البروفيسور جوس كيكليم أستاذ علم الوراثة في جامعة كمبريدج إن التقدم الذي تحقق كان دراسة تمثل «بلا شك علامة فارقة».
ولكن: «نحن نمتلك بالفعل ثروة من التقنيات البسيطة، والرخيصة، والقوية والناضجة من أجل هندسة طائفة من الكائنات وراثيا. وبالتالي، فإنه ليس من المرجح، في الوقت الحالي، أن تحل هذه المقاربة محل الطرائق القائمة في الهندسة الوراثية».
والواقع أن المناقشات الأخلاقية التي تحيط بقضايا تخليق الحياة التركيبية أو الاصطناعية تتواصل منذ مدة ليست بالقصيرة.
ويقول البروفسور جوليان سافوليسكو، الأستاذ في مركز أوهيرو أكسفورد للأخلاقيات العملية في جامعة أكسفورد، إن إمكانات هذا العلم الواعدة ستتحقق «في المستقبل إلى حد بعيد، لكنها حقيقية وكبيرة».
ويضيف: «غير أن المخاطر أيضا غير مسبوقة.. إننا نحتاج إلى معايير جديدة لتقييم سلامة هذا النوع من البحوث جذريا والحماية من سوء أو إساءة استخدامه عسكريا أو إرهابيا. والواقع أنه يمكن أن يستخدم في المستقبل لصنع أقوى الأسلحة البيولوجية التي يمكن تخيلها. ويبقى التحدي أن نأكل التفاحة دون أن نأكل الدودة معها».
لكن البروفيسور فنتر يقول إن هذا الإنجاز لا بمثل خطرا في شكل إرهاب بيولوجي، مضيفا: «وقد استعرض ذلك على نطاق واسع في الولايات المتحدة في تقرير من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) ولجنة فكرية تابعة للحكومة الأمريكية، أشار إلى أن المخاطر الجديدة لهذا العلم بالغة الضآلة. ومعظم الناس متفقون على أن هناك زيادة طفيفة في احتمال الأذى، ولكن هناك زيادة كبيرة في الفائدة المرجوة للمجتمع».
وأضاف: «إن لقاح الإنفلونزا الذي ستحصل عليه في العام المقبل ربما يكون قد طور بواسطة هذه العمليات».
أيمن حسن
---------------------------------------
مجلة العربى - ملحق العربى العلمى