ماذا حدث لنا؟ المصريون.. من
التسامح إلي الفوضي والتخوين
تحقيق: دعاء خليفة
مشاهد يومية تجتاح الشارع المصري الآن....عنف, أسلحة بيضاء ونارية ومولوتوف في كل مكان, هذا غير سلوكيات الفوضي اليومية والتحرش ومسلسل حوارات التخوين..
وقائع تفرض وجودها في مجتمع يبدو وكأنه قد تبدل أو حدثت له حالة من الردة بعد عدة أشهر فقط من تجلي أفضل مافيه خلال18 يوما. هي عمر ثورته التي انتهت بتنحي رئيس الجمهورية السابق. فبعد أن انكسر حاجز الخوف تجلت في الميدان أنبل صفات المصريين من وحدة و تسامح وايثار وقبول للآخر, بلا فوضي أو فتنة ولا بلطجة أو تخوين في لوحة رائعة لمصر أبهرت العالم, و الآن و بعد عدة أشهر, ماذا حدث للمصريين وأين اختفت ملامح هذه اللوحة الجميلة؟ و لماذا تغيرت سلوكيات المصريين وظهر أسوأ ما فيها رغم أن الثورة مازالت تستكمل خطواتها و مسيرتها ؟
بداية يفسر د. أحمد يحيي عبد الحميد, أستاذ الاجتماع السياسي ما يحدث قائلا إنه بعد أن نجحت ثورة25 يناير في تجميع القوي السياسية, والإتجاهات الفكرية والأحزاب والتيارات في بوتقة واحدة وهدف واحد من أجل مواجهة حالة الفساد التي كانت سائدة قبل هذا التاريخ, حدث التفاف جمعي علي إسقاط النظام وتحرير الوطن من الفاسدين وإسقاط الحزب الوطني وتشكيلاته ورجاله الذين أفسدوا الحياة في مصر وعلي رأسهم أجهزة الأمن التي كانت تحمي النظام بدلا من المواطنين. و نجح الاتفاق الجمعي الذي شمل كل الفئات والتيارات والأفكار. وذهبت السكرة وجاءت الفكرة. ليصبح الكل يفكر في تأثير ما حدث عليه شخصيا وحدث الانقسام والفرقة ليبحث كل فصيل عن مكاسب و زعامة و تصدر للمشهد السياسي و ظهرت تيارات لم تكن معروفة باهتمامها بالمشاركة في المظاهرات و محاولاتها ركوب الموجة وتكريس التنقسام داخل المجتمع مثل دعاة السلفية والجماعات الإسلامية. فأصبح المجتمع مقسم بين عدة فئات من التيار الديني و الليبرالي تقوم بعض وسائل الإعلام بتزكيتها. هذه الإنقسامات كما يؤكد د. يحيي تمثل خطورة علي العلاقات المصرية المصرية التي تضربها الآن الانقسامات وتخوينات وعدم ثقة أعادت الكثيرين لسلوكيات اللامبالاة وأصبح شاغلهم هو البحث عن الاستقرار ولقمة العيش. ويحذر من ان قطاع من المصريين كاد يكفر بالثورة بسبب سوء أحواله بينما مازال قطاع آخر يحتفظ بالأمل أن تتحسن أحوالهم الاقتصادية والإجتماعية وذلك حتي يشعروا بنتائج الثورة هذا بالاضافة للشعور المتضارب حول كيفية تحقيق الأمن والأمان. كل هذه الشواهد تكشف عن حالة فوران وغليان وغضب مكتوم يمكن ان يأكل الأخضر واليابس والسؤال هل نحتاج لثورة أخري لتصحيح المسار؟ ثورة يقودها السياسيون لا الإنتهازيون, اصحاب المصلحة الحقيقية و هم الشعب حتي تنجو مصر من الوقوع في بئر الصراعات الداخلية.ويتساءل من ينقذ مصر من المصريين؟
أحلي ما في المصريين
أما د. أحمد عبدالله, أستاذ الطب النفسي بجامعة الزقازيق, فيري أن كل ما يحدث كان موجودا بداخلنا لكن لم يكن مفعلا لكن الآن هذه السلوكيات موجودة بشكل أوسع و يوضح أن العنف و النزعات المكبوتة عند المصريين سببها كم الضغوط و الفساد والافساد لعقود طويلة التي تعاقبت علي هذا المجتمع لتفسد صحته وتعليمه وتفكيره و ايضا سلوكياته. حتي انني كنت اتعجب كيف يستطيع هذا الشعب الإستمرار في الحياة وسط هذا الكم الهائل من الضغوط. ويضيف: معاول الهدم وعمليات الإفساد المستمرة تنتج خطوط انتاج علي كل المستويات. نتيجة كل ذلك حدثت كثير من التشوهات في سلوكياتنا وتعرضت الشخصية المصرية للسحب و الطرق والتسخين لتنتج سلوكيات بها كثير من التشوه و كان الجميع حبيس بوتقة النظام السابق وأتت الثورة لتخرج اجمل ما في المصريين, مضيفا أنهم عرفوا في هذا الوقت كيف يمكن أن يكونوا شخصيات آدمية سوية لها سلوكيات راقية. لكن هذه الحالة لم تجد من يحاول دراستها و استثمارها لتتحول إلي حالة دائمة لامؤقتة.
لكن دكتورأحمد عكاشة, رئيس الجمعية المصرية للطب النفسي لا يبدو قلقا ويشرح مبرراته قائلا إن أي ثورة تفرز سلبيات وإيجابيات وتطهر نفسها بنفسها و أي ثورة ينضم لها انتهازيون ومنتفعون ولكن كل ذلك يتبلورليبقي الأقوي والأصلح في النهاية. فوجود أكثر من160 ائتلافا و نحو30 حزب آخر أمر يمكن النظر له إيجابيا كما يقول فكل يحاول أن يعبر عن نفسه بطريقة ما لكن لن تبقي هذه الاوضاع طويلا لتتحول هذه الإئتلافات لقوي أكثرتجمعا.أما تغيير السلوك فهو يعتمد علي البيئة المحيطة,والمجتمع الفاسد الذي يتميز بعدم المصداقية و عدم الشفافية و عدم المساءلة و النفاق والوصولية يفرز أخلاقيات جديرة بهذه الطباع. و يستطرد: عندما وصفت أخلاق المصريين اثناء الحكم السابق بأخلاق العبيد غضب الكثيرون لكن مواجهة الحقيقة تؤكد أ ن مظاهر النفاق والكذب والسلبية والوصولية كانت سائدة مما اصابهم بنوع من الاستسلام والعجز والسلبية. وعندما جاءت الثورة ظهر الشباب المثقف المستنير و المنفتح علي العالم و أزاحوا حاجز الخوف و ضحوا بذواتهم ليس لنفع فئوي أو لمصالح خاصة بل حبا في مصر و إعادة كرامة المصريين فبدأ التفاؤل و انضم إليهم كل الشعب دون طائفية او عقائدية اوانقسامات و بدأ الشباب يعطون القدوة لمصداقية الذات و تحمل المسئولية و التعاون و تجاوز الذات.
لكن بعد فترة قليلة, كما يقول دكتور عكاشة, انضمت اليهم مجموعات مختلفة, كل منهم لهم أجندته الخاصة و لا يتميزون بالحب المطلق لمصر بل بالانتماء إلي أجندة خاصة ويضاف لذلك الانفلات الامني و الاعلامي, مما أحدث تغيرا في المزاج المصري فأصبح القلق والخوف وعدم الأمن والترقب غير المريح لمستقبل مصرهي المشاعر المسيطرة, وتناسي الكثيرون انه مع بدء الهدم يجب البناء لكن الناس مشغولة بالماضي و المحاكمات. والإنسان الذي لا يشعر بالأمن في منزله أو في الشارع يصير قلقا خائفا و لا يستطيع أن ينتج بكفاءة كذلك المصري الذي يجد مئات الفئات, كل منهم يعتقد أنه الأصح يفقد الثقة في الكل. و الصحة النفسية كي تكون ثابتة و مستقرة يجب أن تشعر بالأمن و الأمل و كذلك الثقة في الآخرين و منها المؤسسة الحكومية و الامنية و المجلس العسكري.
أولي خطوات البناء
لكن رغم كل هذه المشكلات يتوقع دكتور عكاشة أن الانسان المصري سيعود لاكتشاف افضل ما فيه من احساس بالمسئولية وحب الوطن و تجاوز الذات و قبول الآخر و الحوار معه و أنه سوف تحدث نهضة لم تشهدها مصر من قبل.
لكنه يحذرمن رغبة كل طرف من الأطراف فرض رأيه علي الآخرين من شباب الثورة الي التيار الاسلامي و الحكومة و المجلس العسكري ويقول: نحن لا نعرف لغة الحوار و قبول الآخر بينما مفهوم الديمقراطيه هو قبول الآخر والقدرة علي الحوارعندما نصل لذلك ستبدأ اولي الخطوات نحو البناء. فما يحدث أن الإناء الذي يغلي داخل الإنسان المصري منذ أكثر من ثلاثين عاما من كافة أشكال القهر والفساد كشف عنه الغطاء ولا أحد يستطيع أن يمنع الانفجارولكنه سرعان ما سوف يهدأ فمعظم الثورات تأخذ سنوات. ويضيف أنه يجب ألا نيأس و نساعد علي تسيير الأمور وضبط الأمن والإعلام حتي تحدث أول انتخابات نزيهة.
أما الكاتبة الصحفية فريدة الشوباشي فرغم حزنها الشديد كما تقول لما تتابعه من مشاهد تراها غريبة علي طبيعتنا هذه الأيام وقناعتها من أن هناك أيادي تعبث في مصر لكنها تؤكد أنه لا مصرو لا المصريين سوف يعودون لما قبل25 ينايروتقول أنه حتي لو حدثت بعض التعثرات, فهي عابرة.
يتسترون بالدين
لكن الأمر يحتاج كما يقول دكتور احمد عبد الله الي وعي بما يحدث لنا لتتحول حالة ما بعد25 يناير من ترابط وتسامح ووحدة و قبول للآخر الي حالة دائمة ولا يمكن حدوث ذلك الا بوجود برامج حقيقية لتحسين أوضاع الفقراء, فكاتم صرخة الجوع يمكن ان نتوقع منه كل اشكال العنف و التخريب. ويضيف أن من يتأمل مشهد تدفق السلفيين علي الميدان يوم الجمعة التي اتفقت فيها القوي الوطنية علي عدم رفع شعارات خاصة, يري مظاهر الفقر الشديد التي يصبطغ بها الآلاف ممن أتوا بهم إلي التحرير تأييدا لهم. فالدين هو ورقة التوت التي يغطون بها انفسهم بسبب الفقر والإنسحاق. وهنا مثال للغرق في حلزونية الدين الذي هو ليس بالدين الإحيائي و لكن الحمائي. فالفقراء يحتمون بالدين من مجتمع شرس ويتسترون به في مواجهة الغني وعدم العدالة. ويستطرد انه يجب مساعدة الدولة في المرحلة الحالية لخدمة المواطنين و تحسن أحوالهم فالبلطجيه ابناءنا ولكن النظام افسدهم. فيجب تحويل الطاقات الإيجابية لمساعدة انفسنا و حل مشكلاتنا و يتساؤل هل نستورد صينيين ليكملوا هم مسيرة ثورتنا؟
الفقر والعوز
سبب منشأ البلطجية
مساندة الفقراء والمهمشين وتوعيتهم بحقوقهم وواجباتهم دور مهم بدأت بعض جمعيات المجتمع المدني, القيام به كما تقول ابتهال رشاد, مستشارة تنمية بشرية وإحدي ناشطات المجتمع المدني موضحة ان هناك مناطق منعزلة تماما عما يحدث في مصر,وتشرح أن الأوضاع المترديه في الأحياء الشعبية و العشوائيات والعوز المادي والصحي والتعليمي والنفسي سبب منشأ البلطجية, فالبلطجية أفراد مننا لم يولدوا بلطجية.وتضيف ان ما يحدث من سلوكيات سلبية سوف يختلف مع تحسين أحوال هذه المناطق وعدالة التوزيع و منحهم الحق في الحياة. فما حدث من فساد سياسي و اقتصادي إجتماعي وصل إلي إفساد الإنسان نفسه. لكنها تذكر بأننا مازلنا في حالة ثورة ومنها الثورة علي أنفسنا لنتخلص من رواسب النظام خلال الستين عاما الماضية. وسوف يراجع الإنسان المصري نفسه ويهدأ خاصة بعد محاسبة ومحاكمة الفاسدين سبب الخراب و الفساد السياسي ويعود المصريون إلي أجمل ما فيهم بل يعود لهم الحق في أن يحلموا بالغد, حلما كان قد أصابه الموات.
الأهرام