بقلم ـ عمرو موسى
نظام جديد لإدارة الدولة المصرية
سبعة أشهر مرت منذ سقوط النظام السابق, استغرق الكثيرون خلالها في النظر إلي الماضي, وليس المستقبل. سبعة أشهر ولت دون حركة مدروسة الخطوات معلومة التوقيتات علي طريق التحول الديمقراطي.
وصولا إلي تسليم مقاليد الحكم إلي سلطة يختارها الشعب في انتخابات حرة ونزيهة في وقت يعاني فيه السواد الأعظم من المصريين من استمرار حالة الانفلات الأمني وضبابية المشهدين السياسي والاقتصادي. وعليه فان السؤال الأهم والأولي بالإجابة من وجهة نظري هو: أما وقد سقط النظام, ماذا نحن مقيمون مكانه؟ ما هو البناء الجديد؟
تقف مصر اليوم بعد نجاح ثورتها الفريدة أمام فرصة تاريخية لوضع أسس نظام جديد لإدارة الدولة تتخلص فيه من إحدي أخطر الآفات التي كبلت حركتها وأهدرت طاقتها, ومهدت الطريق أمام نظام الحكم السلطوي. آفة اختصرت مصر في عاصمتها, وفي واد ضاق بسكانه. أخطر آفات نظام الحكم في مصر هي المركزية المفرطة.
انني وبعد بحث ودراسة مستفيضة ومناقشات مطولة مع عدد من خيرة عقول هذا الوطن من الخبراء, ومن الشباب, أعتقد أن الوقت حان لتأخذ مصر بأسلوب جديد لإدارة الدولة يقوم علي اللامركزية المستندة إلي دعامتين أساسيتين:
1) ديمقراطية حقيقية تجعل الشعب هو صاحب الرأي والقرار علي قاعدة من المشاركة والمسئولية الشعبية, ديمقراطية لا تقتصر علي انتخاب رئيس الجمهورية أو البرلمان, وانما تمتد لتشمل المسئولين علي مختلف مستويات الإدارة المحلية, بدءا بالمحافظين, وانتهاء بعمد القري, ديمقراطية يقترب فيها صنع القرار وتنفيذه ممن سيتأثرون به في المقام الأول, تضطلع بها أجهزة تنفيذية تمتلك الصلاحيات وآليات التدخل لحل المشكلات وخلق الفرص, تراقبها وتحاسبها مجالس شعبية يعيد الشعب انتخابها لفترات محدودة كل ذلك في إطار منضبط لا يترك فرصة لعشوائية القرارات.
2) مشروع متكامل للنهضة الاقتصادية والاجتماعية علي أساس من استقلالية وفاعلية صنع القرار المحلي في كل اقليم أو محافظة, يأخذ في الاعتبار أن الفرص والتحديات التنموية قد تتمايز وتتباين من اقليم لآخر.
ان الدعوة إلي نظام لإدارة الدولة يستند إلي اللامركزية, تعني التحول إلي نظام يقوم علي توزيع كفء وواقعي للمسئوليات والصلاحيات والاختصاصات بين:
1) سلطة مركزية قوية تضطلع بمختلف المسئوليات القومية والمركزية للدولة, وعلي رأسها وضع السياسات الكلية وتوفير المناخ المناسب لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية, وتحقيق العدالة الاجتماعية, وتولي مسئوليات الدفاع والأمن القومي والسياسة الخارجية, إلي غير ذلك.
2) سلطات محلية منتخبة تنتقل إليها بشكل مؤسسي وتدريجي بناء علي جداول زمنية مقتنة ـ مسئولية وصلاحيات صنع القرار في كل ما يتعلق بالشأن المحلي, بما في ذلك تمويل الانفاق المحلي عن طريق تطوير الرسوم أو الضرائب المحلية, وتضم هذه السلطات:
أ ـ أجهزة تنفيذية يأتي علي رأسها المحافظون ورؤساء الوحدات المحلية والعمد, وهؤلاء يتم انتخابهم لفترة محددة, ولتكن نفس فترة رئيس الجمهورية, علي أن يعاد انتخابهم لمرة واحدة.
ب ـ مجالس شعبية محلية تتوفر لها صلاحيات حقيقية بما يضمن المشاركة الفعالة في تحديد الأولويات, وصنع القرار, والرقابة علي السلطة التنفيذية المحلية, ومحاسبتها وتوجيهها بقرارات لها صفة الالزامية, فضلا عن سلطة سحب الثقة منها إذا لزم الأمر.
انني وإذ أطرح هذا التصور لنظام جديد لإدارة الدولة, وهو تصور سيخضع بالطبع للنقاش المجتمعي بما يضيف إليه ويطوره, أدرك تماما أبعاد وانعكاسات ما اقترحه أخذا في الاعتبار تجذر المركزية كنظام للحكم في مصر منذ آلاف السنين, بالإضافة إلي ذلك, أعي تماما تعقد عملية التحول من النظام الحالي المفرط في المركزية إلي نظام جديد لا مركزي يتسم بالكفاءة ويستجيب لجسامة الأعباء التي تفرضها المرحلة الانتقالية للتحول.
فمن ناحية يتطلب التحول إلي اللامركزية إطارا دستوريا وقانونيا يجب العمل علي توفيره من خلال النص صراحة في الدستور الجديد وفي قانون جديد للحكم المحلي علي اللامركزية كنظام لإدارة الدولة وبشكل يحدد المسئوليات والصلاحيات وقواعد المساءلة, ومن ناحية أخري فهناك حاجة لادخال العديد من التعديلات التشريعية علي عدد من القوانين القائمة, مثل قانون اعداد الموازنة العامة للدولة, وقانون الوظيفة العامة. هناك أيضا حاجة إلي خطة مفصلة وتدريجية ببرنامج زمني محدد للفترة الانتقالية ـ أربع إلي ثماني سنوات مثلا ـ يقرها البرلمان, وتشرف علي تنفيذها الحكومة المركزية بالتعاون مع المحليات.
أما عن العناصر التنظيمية والمالية والإدارية لهذه الخطوة العملاقة فتشمل:
1) التحديد الواضح والمنضبط للعلاقة بين السلطة المركزية والسلطة المحلية, وللحدود الفاصلة بينهما, بما يضمن استمرار تقديم الخدمات العامة بكفاءة وفاعلية خلال المرحلة الانتقالية ثم سلاسة العلاقة بين الطرفين ووضوح مسئوليات كل منهما تجاه المواطنين وتجاه بعضهما البعض.
2) التحديد الواقعي والفعال لمستويات السلطة المحلية( المحافظات والمراكز) وتعريف الوحدات المحلية المرتبطة بها (المراكز والمدن والاحياء والقري) وذلك بالاقتصار علي مستويين فقط, بدلا من التدرج المعقد متعدد المستويات للحكم المحلي حاليا, مع تنظيم العلاقات الأفقية والرأسية بين هذين المستويين, بحيث يتم اعطاء الحق الأصيل لكل مستوي في اتخاذ قرارات بعينها ينص عليها القانون صراحة.
3) تحقيق التوازن بين السلطات التنفيذية المحلية والمجالس الشعبية المحلية, عن طريق اعتماد دور المجالس الشعبية المحلية المنتخبة في اقرار الميزانية المحلية, وفي الرقابة والمحاسبة علي عمل السلطات التنفيذية, بما في ذلك عن طريق الاستجوابات وطلبات الاحاطة وسحب الثقة, فضلا عن إلزامية قراراتها للسلطات التنفيذية المحلية.
4) النقل المؤسسي لجميع المسئوليات والاختصاصات المالية والإدارية المحلية من السلطة المركزية إلي السلطات التنفيذية المحلية, ليتولاها المحافظ باعتباره رئيس الجهاز التنفيذي والمسئول الأول أمام مواطني المحافظة.
اتصالا بكل ذلك, اعتقد أن الوقت حان أيضا لإعادة النظر وبشكل شامل في التقسيم الجغرافي والإداري بكل ذلك, اعتقد أن الوقت حان أيضا لإعادة النظر وبشكل شامل في التقسيم الجغرافي والإداري الحالي للدولة, ومن أمثلة ذلك ربط محافظات الصعيد بالبحر الأحمر, وتوفير ظهير صحراوي يفي بأغراض الامتداد الزراعي والعمراني.
ان التحول إلي هذا النظام الجديد لإدارة الدولة هو في رأيي أحد أسس تغيير وجه الحياة في مصر, دعما للديمقراطية وتدشينا لنهضة اقتصادية وتنموية وإدارية تحقق المزايا التالية:
1) انه بالانتقال إلي اللامركزية ستتوقف عملية صنع القرار عن أن تأخذ شكل فرمانات وقرارات فوقية تفرض علي الشعب دون ان يشارك في صنعها بل ستتحول إلي حوار مجتمعي مستمر ومتصل.
2) أنه عندما يتم انتخاب المحافظين ورؤساء الوحدات المحلية لمدد محددة, وبالمثل انتخاب أعضاء المجالس الشعبية المحلية, فان ولاء واهتمام وعمل هؤلاء سيكون لأهالي المحافظة أو المدينة أو القرية, الذين يملكون إعادة انتخابهم أو انتخاب غيرهم.
3) ان الانتقال إلي اللامركزية يمكن وبطريقة أفضل من تحقيق الانطلاقة الاقتصادية من خلال الاستخدام الأمثل للموارد الاقتصادية والبشرية المحلية, واطلاق العنان لطاقات المجتمع وفتح آفاق الأمل أمامه, مع ضمان التوزيع العادل لثمار التنمية, بما يسرع من العلاج الجذري للعديد من المعضلات التي اعاقت نهوض المجتمع, وعلي رأسها الفقر, والبطالة, والنزوح إلي المدن, فضلا عن تسهيل عملية الخروج الضروري من الوادي الضيق إلي الرحاب الأوسع للخريطة المصرية.
4) تعني اللامركزية احداث تطوير شامل في عمل الجهاز الحكومي يضع السلطات المحلية المنتخبة ديمقراطيا والخاضعة دائما للمساءلة الشعبية في قلب عملية صنع القرار المحلي وتنفيذه, بما يضمن الارتقاء بكفاءة وفاعلية اداء الجهاز الحكومي وبجودة الخدمات العامة علي مستوي الجمهورية, فضلا عن اطلاق تنافس مطلوب بين المحليات لتغيير وجه الحياة إلي الأفضل ـ كل في موقعه ـ وهو سباق أزعم أن الرابح الرئيسي فيه سيكون هو المواطن المصري.
ان تحقيق هذا التحول الثوري في نظام الحكم والإدارة المصري المتجذر منذ آلاف السنين, سيحتاج لوقت وعمل كبيرين, ولكنه ضروري إذا أريد لوجه الحياة في هذا الوطن ان يتطور ويتغير إلي الأفضل.
الاهرام