رسالة عمان- مهدي مصطفي
الأردنسطين.. دولـة عربية جديدة!!
------------------------------
منذ ثلاثين عاما زرت عمان مرورا إلي بغداد.. كانت مدينة صغيرة.. بيوتها مزروعه فوق التلال والهضاب..تعرف بالمدرج الروماني.. وشارع الحسين.. لكنها تغيرت الآن.. صارت مدينة واسعة.. بها أبراج تجارية ضخمة.. وعمارات علي طراز معماري واحد..بلون الصحراء.. وشوارع فسيحة.. تتمدد في كل الاتجاهات.. مع مسحة عولمة في إعلانات الشوراع.. ولافتات المحلات الكبري..
حين وصلت كانت عمان قد احتفلت بعيد الاستقلال الرابع والستين.. فقد ظهرت الدولة الأردنية إلي الوجود في25 مايو1946, أي قبل ظهور الدولة العبرية في فلسطين بعامين, فالأخيرة أنشئت في نفس الشهر, مايو, ولكن عام1948.
هدوء عمان الظاهر كان يخفي معركة أخري تدور في المنتديات وأروقة القصور, وصالونات السياسيين,ومقالات الكتاب في الصحف, وتظهر بين الحين والآخر في بيانات سياسية, كبيان رئيس الوزراء السابق أحمد عبيدات, عن العلاقة بين الأردنيين والأردنيين من أصل فلسطيني, وعبيدات أردني نقي, وقد وقع علي هذا البيان أكثر من300 شخصية عامة من مختلف النخب الأردنية, بعد أن اشتم الرجل بحكم موقعه القبلي والسياسي أن النار تسري في الجسد الأردني, مع تصاعد التمييز بين ما هو أردني من الريف والبادية وبين ما هو فلسطيني, سواء كان من مهجري النكبة عام1948, أم مهجري النكسة عام1967, أم من الفلسطينيين الذي شردهم الغزو العراقي للكويت في2 أغسطس عام1990.
زيارتي إلي عمان كانت من أجل تحقيق رواية معركة الكرامة عام1968, والتي وقعت كما تقول الرواية المتداولة بين الفدائيين الفلسطينيين وبين الاحتلال الصهيوني, بعد هزيمة يونيو67, وقد انتصر فيها الفدائيون, وباتت منظمة التحرير الفلسطينية بعدها رقما مهما في المعادلة العربية, وشعر العرب جميعا بعد النكسة أنه يمكن الانتصار والخروج من الهزيمة..
هذه هي الرواية المعروفة في المنطقة العربية.. لكن رشيد نذير, رئيس المخابرات الأردنية, ثم وزير الداخلية, وسفير الأردن في المغرب الأسبق خرج بشهادة مختلفة, تقول إن الفدائيين ليسوا أبطال معركة الكرامة.. بل الجيش الأردني وحده الذي دخل هذه المعركة وانتصر فيها, وهي شهادة أثارت جدلا هائلا ولا تزال..وسوف تنشر الأهرام العربي قصة هذه المعركة في أعداد مقبلة..
من عمان إلي السلط. ومن السلط إلي الكرامة, حيث مسرح المعركة.. مرورا بأكثر نقطة منخفضة في الكرة الأرضية بغور الأردن, حيث تشعر بضغط جوي هائل, فأنت الآن تحت سطح البحر ب250 مترا.. قاد الفريق رشيد سيارته وهو في الحادية والثمانين من العمر.. وهو يحكي عن أيلول الأسود, ومعركة الكرامة.. واصفا المشاهد, وكأنها حدثت بالأمس..
قريبا من جسر الحسين الذي يربط الضفة الغربية بالضفة الشرقية بعدة كيلومترات.. توقفت السيارة أمام مزرعة صغيرة يملكها, حيث يعمل الفريق نذير الآن.. ثم أشار إلي فلسطين التاريخية حيث تقع تحت براثن الدولة العبرية.. قائلا وهنا المسجد الذي اختبأ فيه الفدائيون الفلسطينيون, واغتالتهم إسرائيل وهم في الداخل, ولم يسعفهم الوقت لخوض المعركة..
رواية الفريق رشيد عن معركة الكرامة قد يعارضها آخرون, ولكنه يقول إن كل الذين عايشوها يعرفون هذه الحقيقة, ثم قال لقد كانت مقدمة لأحداث أيلول الأسود عام70, والتي جرت بين الفصائل الفلسطينية المسلحة وبين الجيش الأردني.. مؤكدا أن قادة حركة فتح في ذلك الوقت كان يقولون إن طريق القدس يمر بتحرير عمان!!
في أيلول الأسود كان البريطانيون والأمريكيون, كما يقول الفريق رشيد, ينتظرون نهاية المعارك, ويدعمون المنتصر وحده علي قاعدة' إياك أن تدعم خاسرا'.. في النهاية خرجت الفصائل من الأردن, وتلك حكاية أخري طويلة يرويها الفريق رشيد ل' الأهرام العربي' فيما بعد..
يبدو أن أحداث أيلول الأسود70 لا تزال جمرة حارقة في الكف الأردنية.. ولا تزال فكرة الأردن هو الوطن البديل للفلسطينيين كرة اللهب المقذوفة علي الدولة الأردنية.. وهي فكرة يتبناها اليمين العبري..لتصفية القضية الفلسطينية.. من خلال تهجير الفلسطينيين إلي الأردن, وتدعمها مراكز القرار الأمريكي في العاصمة واشنطن, ويضغطون بها علي العرش الأردني, بدعوي أن الأردن أنشيء من أجل هذا الغرض, تحت ذرائع شتي منها أن نصف سكانه من الفلسطينيين.. وأن حل الدولتين المطروح غير قابل للتنفيذ.. وفي النهاية يتبني هذا اليمين فكرة الدولة اليهودية النقية..
منذ أسابيع اتخذت إسرائيل قرارا بطرد عشرات الآلاف من الفلسطينيين من الضفة الغربية, بذريعة أنهم من غزة.. وليسوا من الضفة, وهو القرار الذي خشي منه الأردن باعتباره مقدمة لفكرة الوطن البديل.. يعقوب, فلسطيني أردني.. يقيم في الأردن منذ حرب يونيو67 لديه أربعة أبناء ذكور, يحمل الجنسية الكندية.. يقول أن بيته لا يزال هناك في الضفة الغربية.. ولديهم أملاك وراء الخط الأخضر, حصل علي الجنسية الأردنية, وكذلك أولاده.. لكنهم يشعرون الآن بالتمييز, معترفا بأن أحدث أيلول الأسود لا تزل تشكل هاجسا للأردنيين.. مؤكدا أن الاقتصاد تقريبا بأيدي الأردنيين من أصل فلسطيني, بينما المناصب الرفيعة والوظائف الحساسة بأيدي أبناء العشائر الأردنية النقية والشرق أردنيين
أبو ثائر كما يحب أن يطلق عليه, فجر مفاجأة حين قال: إن مسألة الوطن البديل وضم الضفة الغربية إلي الشرقية وتشكيل دولة كونفدرالية بين الأردنيين والفلسطينيين تجري سرا بعيدا عن صخب الإعلام, وما ينشر هو جس نبض للرأي العام, لمعرفة كيف ستقبل بالفكرة.. ويضيف.. هناك مخططات لبناء مدن كاملة.. وقد رأيت هذه المخططات علي الأرض في أكثر من مكان..فإنشاء البنية الأساسية يجري علي قدم وساق في بعض الأماكن, وشق الشوارع فيها يمضي سريعا, ولا تبدو الحاجة ملحة لذلك, ولكنني عرفت أنها المدن التي سوف تستقبل الفلسطينيين بعد تسوية فكرة الوطن البديل..
كيف؟
مثلا.. بدأ الفلسطينيون يشترون الأراضي, وبناء العقارات, والسيدة سها عرفات زوجة الزعيم ياسر عرفات, حاولت شراء بعض الأراضي دون الرجوع إلي القصر الهاشمي, وقد غضبوا منها لأنها فعلت ذلك دون استئذان..
وما علاقة سها بقضية الوطن البديل؟
.. لا توجد علاقة مباشرة.. ولكنني أقول لك إن مسألة توحيد الفلسطينيين والأردنيين تحت العرش الهاشمي في دولة واحدة هي مسألة وقت..
حين سألت الفريق نذير رشيد عن فكرة الوطن البديل قال لي علي الفور: هذه المسألة انتهت بتوقيع اتفاق وادي عربة بين الأردن وإسرائيل عام1994, وأصبحت القضية الفلسطينية قضية شعب يريد دولته المستقلة.. نفس الكلام قاله فايز الطراونة رئيس وزراء الأردن السابق..
لكن يعقوب أبو ثائر يقول: الفلسطينيون في الأردن يشكلون أكثر من نصف السكان, والضفة الغربية كانت مع الأردن قبل أن تصبح منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني, وقبل أن يفك الملك حسين الارتباط مع الضفة الغربية عام1988, واعتراف الملك بمنظمة التحرير جري تحت ضغط, وفكه للارتباط جاء بناء علي رغبة الفلسطينيين, ولم يفت أبو ثائر ملاحظة ذكاء الملك حسين الذي وقع اتفاق سلام مع إسرائيل بعد أن كان ياسر عرفات هو الذي بدأ قبله عام1993 حين وقع اتفاق أوسلو برعاية أمريكية في حديقة البيت الأبيض مع رابين رئيس وزراء إسرائيل السابق بحضور الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون..
لقد أحصيت أكثر من عشرين زيارة للملك حسين إلي بريطانيا في ذلك الوقت للنصيحة, هكذا يقول أبو ثائر.. وهنا يخفض صوته ويقول: إن الجسد الأردني خليط من الأردنيين والفلسطينيين.. وليس بعيدا أن الملكة رانيا العبد الله وهي فلسطينية زوجة الملك عبد الله الثاني.. وولي العهد هنا الأمير حسين بن عبد اللهتجري في عروقه دماء الشعبين.. ويري أبو ثائر أن هذا الأمر هو الرمز لسياسة المستقبل في الأردن الذي قد يصبح المملكة الأردنية الهاشمية الفلسطينية الكونفدرالية..
إذا كان أبو ثائر وهو مجرد مواطن أردني من أصل فلسطيني, ويدرك خبايا السياسة فإن جهاد الرنتيسي الصحفي والكاتب والباحث الأردني, الفلسطيني الأصل, وهو صديق عزيز وزميل قديم لي, حرص أن يقرأ لي خريطة الأحداث, مستلهما المتغيرات الجارية في العالم وفي المنطقة بهدوء, وقبل أن يشير لي إلي مسائل سحب الجنسية الأردنية من بعض الفلسطينيين, ومسألة الوطن البديل أمدني بمعلومات غلية في الأهمية, أولا بيان رئيس الوزراء السابق, احمد عبيدات, مثنيا عليه, باعتبار أن الرجل الأردني الخالص قدم شهادة لله والتاريخ, وجهاد الرنتيسي بعد رحلة طويلة من التقلبات السياسية يقف الآن في وسط الدائرة, ويحاول أن يتماسك وسط دوامة هائلة من التطوحات السياسية, ومنذ سنوات يحرص علي رصد سياسة الترانسفير الإسرائيلي, باعتبارها خطرا يهدد بإعادة تشكيل الديموغرافيا والسياسة في المنطقة, ويهدد باعادة رسم خرائطها, ونعتقد أن الرنتيسي بكتابه المهم' الترانسفير الثالث' لم يأخذ حقه من المناقشة, باعتباره رؤية دقيقة ونبوءة لما سيجري..
وقد صدر هذا الكتاب عام2003 كاشفا عن فكرة الترانسفير في التفكير السياسي الإسرائيلي وخطوات إنضاج هذه الفكرة وتهيئة المنطقة لتنفيذها.
يقول الرنتيسي في حوار مع عمان نت': يقتضي تحدي الترانسفير الإسرائيلي الذي يواجهه الأردن والشعب الفلسطيني, من بين ما يقتضيه عصفا فكريا, تشارك فيه مكونات المجتمع المدني, بجمعياته, وأحزابه, ونقاباته, للمساهمة في البحث عن خيارات عملية, وأدوات ملائمة, لتجاوز المنعطف, الذي يمهد لفرض وقائع جديدة علي أرض الواقع, ومتغيرات واسعة, في الخرائط السياسية والديموغرافية.
سألت جهاد الرنتيسي عن حكاية سحب الجنسية الأردنية من الفلسطينيين فأجاب': كتبت مقالا عن هذه القضية الشائكة جاء فيه,
قد تكون مواجهة' الوطن البديل' و' تثبيت الفلسطينيين في الضفة الغربية' المعزوفة الاكثر ترددا في أوركسترا المبررات المتداولة مع تسارع وتيرة السجال حول القضية التي تشغل المجتمع الأردني.. والأكثر غرابة من مبرر مواجهة مشروع' الوطن البديل' مطالبة حملة البطاقات بحل مشكلة وجودهم في إسرائيل مع الجانب الإسرائيلي'.
ويندهش الرنتيسي ويقول:المعروف عن الأردن سعيه الدائم لتوفير فرص العمل لأبنائه في الخارج لحل أزمة البطالة وزيادة التحويلات, وبعض المغتربين الأردنيين حصل علي جنسيات من هذه الدول دون أن يفقد جنسيته الأردنية.
وهنا يقول: بعض جلساء المسئولين عن تنفيذ قرار فك الارتباط يتداولون مبررا آخر يتمثل في قلة إمكانيات المملكة. وفي هذا السياق درجت عبارة' احنا مي ما عنا نشرب' علي ألسنة رواد الصالونات السياسية, هذه العبارة, والسياق الذي جاءت فيه, لا يخلوان من خطورة, لدي قراءتهما من زاوية العلاقة بين الدول ومواطنيها'.
في المدرج الروماني التقطنا الصور وكان معنا أبو سعيد, يسأل و لا يتكلم كثيرا, ولكنك تلمح فيه عينيه حزنا من الحاضر والقادم معا. وكان يشرح لي تاريخا يمتد من الرومان إلي العصر الحاضر.. كانت ذاكرتي تستحضر سيناريو يوم القيامة الإسرائيلي.. سيناريو طرد ما بقي من الفلسطينيين من بلادهم باتجاه الأردن..
كان وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشي أرينز قد دعا إلي التوقف عن اللهاث وراء الدولة الفلسطينية, والخلاص من شعار الدولتين لشعبين, وقال إن' إقامة الدولة الفلسطينية علي حدود الأردن قد تشكل خطرا أكبر علي الأردن مما هو علي إسرائيل', أما اللواء' يائير نافيه' وقد كان قائدا للمنطقة المركزية بالجيش الصهيوني فقال: إنه بسبب التهديدات الإقليمية فإن العاهل الأردني عبد الله الثاني قد يكون آخر الملوك الهاشميين'. وهو التصريح الذي أثار ضجة في وقتها.ويتردد صداه الآن.
عودة مشروع' الوطن البديل' هو ما يخشاه الأردنيون الآن..وقد شكل هذا المشروع عنوانا لورشة غير رسمية بدأت6 يونيو2006 برعاية معهد' أمريكان إنتربرايز' الذي يعتبر من أكثر مراكز الدراسات تأثيرا في السياسة الخارجية الأمريكية, وشارك فيها وفد أردني ترأسه رئيس الوزراء الأسبق عبد السلام المجالي, ومن الجانب الفلسطيني وزير الداخلية السابق نصر يوسف, بالإضافة إلي المستشرق الصهيوني المعروف برنارد لويس, الذي قال:' إن الحدود بين الدولتين( السلطة الفلسطينية والأردن) لا تتمتع بأي شكل من أشكال العمق التاريخي, حيث إن الحدود بين المنطقتين لم تظهر إلا في العقود الأخيرة'. ثم طالب أمام المجتمعين بضم الضفتين في نظام حكم موحد بصرف النظر عن أشكال هذه الوحدة.
وفور تسريب هذا المخطط إلي وسائل الإعلام خرج الملك عبد الله الثاني بتصريحات ترفض وتنفي الفكرة من أساسها.. لكن ما يجري في مطابخ السياسة العالمية والإقليمية والمحلية في الأردن يمضي في طريق آخر.. طريق في نهايته قد تكون دولة الأردنسطين الجديدة, تضم الضفتين الغربية والشرقية وتضاف إليها محافظة الأنبار العراقية لتستوعب اللاجئين الفلسطينيين القادمين من العراق ولبنان ومناطق السلطة الفلسطينية ومنافي العالم..*
مجلة الأهرام العربى