عواطف ومواقف الجيش فى الثورات «١٨٨١- ٢٠١١»
بقلم د. إبراهيم البحراوى ٥/ ٧/ ٢٠١١
طالعت كلمات مليئة بالعاطفة الوطنية الصادقة، قيل إن أحد قادة الجيش المصرى من أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد أدلى بها فى ندوة عامة.
معانى الكلمات تدور حول إحساس العرفان من جانب العسكريين تجاه جماهير الشعب المصرى، التى احتضنت جيشها عندما تلقى هزيمة يونيو ١٩٦٧.
مما قاله هذا القائد إن جيش مصر مملوك لشعبها وإنه يتحد مع تطلعاته فى الحرية والعدالة والكرامة. بالتوازى مع هذه الكلمات طالعت الأسبوعين الماضى والحالى مجموعة تحليلات تتعامل مع دور الجيش الراهن فى الحياة السياسية المصرية باعتباره المخول بسلطات رئيس الجمهورية، جاء بعضها يطرح تساؤلات عن وجود اتفاق بين المجلس والإخوان، وبعضها يتساءل: هل الجيش شريك فى الثورة أم أنه قام بانقلاب على الرئيس السابق، وبعضها يتساءل عن سبب تأخر قرار المجلس بإنشاء صندوق رعاية أسر الشهداء والمصابين فى ثورة يناير خمسة شهور كاملة!
وبما أن جميع من يطرحون هذه التساؤلات يسلمون بأنه بدون دور الجيش فى حماية المتظاهرين وإجبار الرئيس السابق على التنحى.. فإن هذا يعنى أننا أمام نقطة صلبة للعلاقة المتينة بين الجيش والشعب، وإن الحوار كفيل بإيضاح كل ما هو غامض أو فى حاجة إلى تساؤل، وذلك للحفاظ على الضمانة الوحيدة التى تحمى مصر من الانزلاق إلى هوة الفوضى المدمرة، إنها ضمانة الثقة بين الجيش ممثلاً فى المجلس العسكرى، وبين جموع الشعب ومثقفيه وكتّابه. دعونا هنا نقدم لأنفسنا شعباً وجيشاً شحنة إيجابية تدفعنا إلى أداء سياسى مشترك قائم على الثقة المتبادلة. دعونا نتذكر انحياز الجيش المصرى بقيادة أحمد عرابى لطموحات الشعب فى إنهاء ديكتاتورية واستبداد أسرة محمد على ووضع دستور نيابى برلمانى كامل على غرار الدساتير الأوروبية.
عندما وقف قادة الجيش يتقدمهم الضابط أحمد عرابى فى ساحة قصر عابدين بعد ذلك بعامين وثلاثة أشهر، فى ٩ سبتمبر ١٨٨١ قدموا للخديو توفيق، الخاضع للوصاية الأوروبية، مطالب ثلاثة متكاملة تشير إلى تبنى الجيش مطالب الحركة الوطنية، وهى: ١-إسقاط وزارة رياض باشا، والغرض من هذا المطلب إسقاط الوصاية الأجنبية التى تمثلها هذه الوزارة. ٢-دعوة البرلمان إلى الانعقاد والهدف منه إسقاط نظام الحكم المطلق. ٣-زيادة عدد الجيش إلى ١٨.٠٠٠ والغرض منها توفير الأداة الرئيسية لحماية البلاد واستقلالها.
إن هذا الموقف يؤكد تميز الجيش المصرى عن غيره من جيوش المنطقة، فهو أول جيش يتجاوز الطابع الطبقى للجيوش التى كانت تؤسس لحماية العائلات المالكة والحاكمة والطبقة المحيطة بها.
إن خروج الجيش المصرى عن هذا الطابع الطبقى بدخول أبناء الشعب إلى سلك الضباط وضباط الصف واعتماده على الجند من الفلاحين- هو الذى يجعله يستحق صفة الجيش الوطنى الممثل لطبقات الشعب، وليس الجيش الطبقى الممثل لطبقة الملاك والحكام، وإذا وضعنا فى الاعتبار الطبيعة القبلية لبعض جيوش المنطقة، حيث يحرص الحكام على تكوين الجيوش من القبائل التى ينتمون إليها- كما نرى فى ليبيا- لاكتشفنا جدارة الجيش المصرى بتمثيل الوطن كله كجيش وطنى ينتمى بعواطفه إلى جموع الشعب. وإذا كان هذا الانتماء الوطنى للجيش يفسر موقف وزير الجهادية أحمد عرابى وزملائه فى الانحياز لمطالب الشعب ونهضة البلاد فى مواجهة الحكم الديكتاتورى، فهو نفسه الذى يفسر موقف ضباط يوليو فى الإطاحة بالحكم الملكى الديكتاتورى الفاسد لحساب المصلحة الوطنية، وهو نفسه الذى يفسر موقف وزير الدفاع المشير حسين طنطاوى وزملائه فى الانحياز إلى ثورة الشعب فى ٢٥ يناير ضد الاستبداد والفساد. إن العاطفة الوطنية التى وحدت الجيش حول بناء الديمقراطية وتأكيد استقلال مصر وسلامة بنائها الداخلى وعدالة النظام الاقتصادى الاجتماعى فيها قد تكررت مرة بعد واحد وسبعين عاماً من عهد عرابى فى ١٩٥٢، ثم تكررت مرة ثانية بعد تسع وخمسين سنة من عهد عبدالناصر. فى تجربة عرابى تهشمت الثورة بفعل تدخل الأساطيل البريطانية المدعومة من فرنسا (يوم ١١ يوليو ١٨٨٢)، والخيانة الداخلية، لينفى عرابى وزملاؤه وسائر الضباط المشاركين فى الثورة، وبالتالى عادت الأمور إلى ما كانت عليه من استبداد وفساد، مضافاً إليها الاحتلال البريطانى.
فى عام ١٩١٩ تفجرت الثورة الشعبية ضد هذا الوجود الأجنبى المدعوم بقوات الحلفاء الذين توافدوا على مصر بسبب الحرب العالمية الأولى، وهنا كان الشعب وقيادته الممثلة فى سعد زغلول من الفطنة، بحيث لم يحاولوا توريط الجيش فى معركة انتحارية مع جيوش الاحتلال، ومع ذلك فإن الضباط قادوا عمليات مع الفلاحين لقطع إمدادات القوات البريطانية إلى الصعيد عبر مجرى النيل.
وينقل الدكتور عبدالعظيم رمضان فى مؤلفه التاريخى الرائع «الجيش المصرى فى السياسة» محتوى تقرير اللورد ملنر، الذى قدمه للحكومة البريطانية عن الثورة فى ٩ ديسمبر ١٩٢٠، حيث قال: «لقد سادت الحركة الوطنية فى مصر الآن كل ناطق وساكت واجتذبتهم إليها كلهم طوعاً أو كرهاً من أمراء العائلة السلطانية إلى صبية الكتاتيب وأصحاب الأملاك وأهل الصناعات العالية ورجال الدين والأدباء والصحفيين وطلبة المدارس، وأخطر من هذا شأناً أنها تخللت الآن طبقة الموظفين وكبار ضباط الجيش، وربما حال حب هؤلاء للنظام العسكرى ومحافظتهم على الأصول الرسمية دون مجاهرتهم بميولهم».
إن هذه الشهادة البريطانية تؤكد امتزاج كبار ضباط الجيش فى بوتقة المشاعر الوطنية ودعم الثورة فى الخفاء، حفاظاً على المظهر النظامى. فى يوليو ١٩٥٢ قاد ضباط الجيش الثورة التى سماها البعض انقلاباً، لكنها سرعان ما أرست برنامجاً للتنمية والعدالة الاجتماعية لا يتبناه سوى الثوار الأصلاء. لقد اختطفت الثورة من داخلها لتتحول مع عصر الانفتاح إلى الظلم الاجتماعى والتحالف بين الحكم ومحاسيبه. اليوم علينا أن نضغط على لحمة الشعب والجيش لبناء نموذج للحكم الديمقراطى الرشيد، ونظام اقتصادى اجتماعى يحقق الكرامة والعدالة، آملين أن يحقق جيشنا فى ٢٠١١ مزيجاً من أهداف ثورة عرابى فى الديمقراطية ومنجزات ثورة يوليو فى العدالة والتنمية.
المصرى اليوم